ميشال شيحا كان عراقياً، وجورج شحادة مصرياً ويوسف الخال سورياً. بيروت الحداثة رسم ملامحها مثقفون عرب... المشكلة حسب إلياس خوري أنّها «بدأت تتلبنن»
بروكسل ـــ طه عدنان
كان واضحاً أنّ «مسارات ـــــ موسم فلسطين الثقافي والفني في بلجيكا» الذي اختتم فعالياته في كانون الثاني (يناير) الماضي، سيكون له ما بعدَه على مستوى إعادة صياغة صورة جديدة ومتعدّدة لفلسطين في الوجدان العام البلجيكي. لكنّ «مسارات» كان أكثر من ذلك. لقد كان تأشيرةً فنية باتجاه منطقة بأسرها وسبّابة حكيمة أشارت إلى مدينة لا يتردّد الفلسطينيون في اعتبارها عاصمة ثقافية لهم. عاصمة ثقافية ومدينة لجوء كما جاء على لسان ليلى شهيد المولودة في بيروت عام 1949. بيروت التي سبق أن جاءها جدُّها طلباً للدراسة في وقت لم تكن فيه جامعات في فلسطين.
حسب فابيين فيرشتراتن، مديرة المركز الثقافي الأوروبي «لو هال دو سكاربيك» الذي يحتضن حالياً مهرجان «زمن الصور» عن بيروت، فإنّ اهتمامها بفلسطين هو الذي قادها إلى التفكير في اقتراح بيروت حالةً ثقافية على الجمهور البلجيكي، لتقديم الثراء الذي يعرفه الفنّ المعاصر في هذه المنطقة من الشرق الأوسط، وذلك عبر مشاركة نخبة من مبدعي الجيل الجديد في بيروت من أمثال المسرحي ربيع مروة والرسام مازن كرباج والمخرجين جوانا حاجي ـــــ توما وخليل جريج.
ولتشريح هذه الحالة الثقافية المعقّدة المسمّاة «بيروت»، كان لا بدّ من استدعاء جرّاحين كبار. لذا، استضاف المهرجان في ندواته الافتتاحية عدداً من الأسماء اللبنانية البارزة من عيار المعماري جاد تابت الذي أضاء على محطات من تاريخ بيروت العمراني، فيما قدم الناقد والسينمائي اللبناني محمد سويد رؤية طريفة لبيروت من خلال عرض صور معشوقاته بطلات الأفلام العالمية التي صُوِّرت في هذه المدينة. أما الروائي إلياس خوري والشاعر عباس بيضون فقدّما صورة مركّبة لبيروت التي تمارس غوايتها على الجميع: لبنانيين وعرباً وأجانب. بيروت، حسب عباس بيضون، تلبّي احتياجات الجميع. مَن يطلب الثقافة، يجد ضالته في بيروت. ومَن ينشد الحرية، يجدها في بيروت. ومَن يطلب اللهو والقصف، يجد مبتغاه في بيروت. بيروت الفاتنة في كل حالاتها المتناقضة: في ليلها ونهارها، في قوّتها وهشاشتها، في جمالها وذِمامتها، في هدوئها وتوتّرها، في سلمها وحربها.
وبيروت، حسب إلياس خوري، مدينة غير لبنانية، أو على الأقل ليست لبنانية فقط. إنّها مدينة فلسطينية وسورية وكردية... ميشال شيحا كان عراقياً، وجورج شحادة كان مصرياً، ويوسف بيدس صاحب أول مصرف في لبنان كان فلسطينياً، ويوسف الخال كان سورياً مثل أدونيس. العديد من غير اللبنانيين أسهموا في رسم ملامح بيروت/ الحداثة التي نعرفها. ومأساة بيروت اليوم تكمن في أنّها «بدأت تتلبنن»، بمعنى أنها بدأت تخرج من إطارها عاصمةً عابرة للحدود والبلدان.

بيروت باعتبارها مختبراً كونياً لتشريح الأزمة

عاصمةٌ قد لا تجد صعوبة في إيجاد تقاطعات بينها وبين عواصم عالمية مثل بروكسل. أزمة الهوية التي تحاصر لبنان بطوائفه المتعدّدة، هي الأزمة ذاتها التي تلاحق البلجيكيين من والونيّين وفلمنكيين. على صعيد آخر، تبدو بيروت كأنّها تحاكي بروكسل على مستوى تدبير الاحتباس السياسي. العاصمة اللبنانية عاشت ثمانية أشهر بلا حكومة، تماماً كما عاشت العاصمة البلجيكية تسعة أشهر من دون حكومة فدرالية.
وبيروت تماماً كبروكسل مدينةُ مهاجرين. تاريخ بيروت هو تاريخ هجرات منذ الحرب الأهلية الأولى (1840ـــــ1860) على حدّ تعبير إلياس خوري. الموارنة نزحوا إلى بيروت إثر حربهم مع الدروز سنة 1860، والأرمن لجأوا إليها عام 1915 هرباً من الأتراك، والفلسطينيون اصطفَوها ملاذاً أثيراً إثر النكبة عام 1948، والمسيحيّون السوريون استجاروا بها من القمع عام 1960، وهلمّ نزوحاً... تاريخ بيروت إذاً هو تاريخ نزوح وهجرات، تماماً كبروكسل وعواصم دولية أخرى. لذلك، تبدو بيروت مجرّد ذريعة لتناول أزمة الهوية والهجرة والتعايش في العاصمة البلجيكيّة. بيروت باعتبارها مختبراً كونياً لتشريح الأزمة.