أصبح واضحاً أنّ متحف سرسق يدخل اليوم مرحلةً جديدة من تاريخه. إلى جانب ورشة الترميم والتوسيع الضخمة التي قامت بها لجنته بتمويلٍ ذاتيٍّ من مالها المتراكم خلال سنوات طويلة، استثمرت اللجنة في مواردها البشريّة من خلال تعيين مديرة مباشرة للمتحف وتكليفها تشكيل فريق عملٍ مختصٍّ لتولي مختلف أنشطة المتحف. توصف هذه الخطوة التي قامت بها لجنة المتحف بالنوعيّة.
من خلالها، يتم انتقال المتحف التدريجي من إدارة لجنة تضم عدداً من الشخصيات المعروفة لكن غير المختصّة، الى فريق عملٍ مختصٍّ يتولى التخطيط وتنفيذ مشاريع المتحف وأعماله. هكذا، تصبح اللجنة التي يترأسها اليوم وزير الثقافة السابق طارق متري لجنةً لأصدقاء المتحف مولجةً بتمثيله ودعمه. من ناحية أخرى، تؤدي هذه الخطوة الى مأسسة المتحف وتحويله من قصرٍ عائليٍّ يعرض أعمالاً فنيّة متنوّعة الى متحفٍ عامٍ بكلّ ما للكلمة من معنى، فيُعطى فرصةً حقيقيّةً للعب دورٍ أكبر في لبنان.
أمّا فريق العمل الجديد، فقد بدأت ملامحه تظهر بتعيين مديرته زينة عريضة، الشابة المعروفة بنشاطها الطويل في عالم الفن في لبنان عبر تسلّمها إدارة «المؤسسة العربيّة للصورة» منذ تأسيسها عام 1997 وحتى 2014. عملت عريضة على إنشاء مشاريع مختلفة في «المؤسسة العربيّة للصورة» التي تضمّ أكثر من 600 ألف صورة فوتوغرافيّة تؤرشف تاريخ المنطقة في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق ومصر والمغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا. كذلك، كانت عريضة عضواً في لجان انتقاء المشاريع الفنيّة الفائزة في مؤسسة «آفاق» (الصندوق العربي لدعم الثقافة والفنون) بين 2006 و2012 ومؤسسة «برنس كلاوس» للمنح الفنيّة بين 2007 و2013. وهي عضوٌ في اللجنة العلميّة لمتحف «بيت بيروت» منذ 2010. تأتي عريضة إذا من خلفيّةٍ لا تتمحور حول إدارة معارض الفن فحسب، بل تتجاوزه لتكون إلى خلق وإدارة المشاريع حول الفن المعاصر والمشاريع التي تبحث في الأرشيف والتاريخ التراثي للمنطقة.

سياسة جديدة ترمي
إلى محاكاة الجمهور بأعمال
فنية تخاطبه

منذ تسلمها عملها كمديرةً لمتحف سرسق عام 2014، عمدت عريضة إلى تشكيل فريقٍ من المختصيّن الشباب بينهم ياسمين شمالي المختصّة في الفن الإسلامي وترميم الصور الفوتوغرافيّة وقد أوكلتها مهمّة انتقاء المجموعات لمعارض المتحف والحفاظ عليها الى جانب ترميم مجموعة المتحف الدائمة. كذلك، تم تعيين نورا رازايان مسؤولةً عن برمجة أنشطة المتحف، وموريال قهوجي مسؤولةً عن العلاقات العامة والتواصل مع الإعلام. تهدف عريضة وفريق عملها المختصّ والشاب الى بث الحياة في المتحف المقفل وتوسيع شبكة علاقاته لتطال جمهوراً من خارج دائرة الفن المغلقة عبر تقديم المتحف كمكانٍ عامٍ قريبٍ من الناس وبعيداً عن برودة صورة المتحف القديمة.
يعتمد المتحف اليوم خطّة تكثيف أنشطته وتنويعها لتصل الى قاعدة كبيرة من الناس. كذلك، ينوي المتحف الاستعانة بخبراء في الوساطة الثقافية لخلق مشاريع تعرّف الشباب والأطفال إلى مجموعات المتحف وتاريخه، ومن خلالها على تاريخ مدينة بيروت. كذلك يعتمد المتحف مفهوم الشراكة والتعاون في أنشطته، فهو لم يعد يشتري الأعمال الفنيّة بل يستقدمها ويعرضها مباشرةً من فنانين أو عبر متاحف عالميّة وصالات المعارض الفنيّة. كذلك ينوي المتحف تعزيز علاقاته بمؤسساتٍ ومتاحف أخرى كمؤسسة فؤاد دبّاس التي أودعت أرشيف صورها وبطاقاتها البريديّة في متحف سرسق.
مع إعادة افتتاحه، سيقدّم المتحف برنامج معارض متنوّعاً، الى جانب مجموعته الدائمة التي ستعود الى صالاته. إذ تقام ثلاثة معارض كبيرة مؤقّتة كل عام، وأربعة معارض معاصرة صغيرة لفنانين شباب، بالإضافة الى برنامج عروض أفلامٍ فنيّة وندوات وورش عمل. كذلك يخطط المتحف لإعادة تنظيم «صالون الخريف» مرّةً كل سنتين وفتح الباب للفنانين في لبنان لتقديم أعمالهم الحديثة والمعاصرة من لوحات وأفلامٍ فنيّة وتجهيزاتٍ. وسوف يأخذ هذا المعرض شكلًا جديدًا عبر تنوّع الأعمال التي سيقدّمها. وبهدف تمويل الأنشطة المقبلة، ينوي المتحف إنشاء قسم يتولّى جمع الأموال والتبرّعات وإنشاء لجان أصدقاء فاعلة تدعم المتحف سنويّاً وتسهم في توسيع أعماله. كذلك تبرز لدى إدارته الرغبة في توسيع الانشطة تدريجاً وبالاستناد إلى تغيّر الظروف في لبنان بعيداً عن فكرة إسقاط الأعمال الفنيّة على الجمهور بل اعتماد فكرة تنمية الحس الثقافي والفني للجمهور وتقديم أعمال تحاكي أفكاره وثقافته وتاريخه.
قد يكون متحف سرسق بشكله وسياسته الجديدين جسراً يوصل شباب اليوم مع ذاكرة بيروت وإرثها الثقافي والفني. عملية الفصل الحاد بين الماضي والحاضر استفحلت في المدينة فأصبحت علاقتها بتاريخها غريبةً لا تأتي من تطوّرٍ طبيعيٍّ للأحداث والحياة داخلها. لا شكّ أنّ التحدي أمام زينة عريضة وفريقها كبير. فهل يستطيع المتحف الغوص في عمق المعضلة وإيجاد الصلات الحيويّة بين ماضي المدينة وحاضرها؟ هل سينجح في خلق أنشطة عضويّة مستمدّة من واقع الثقافة والفن اليوم أم سيذهب إلى استيراد المزيد من الثقافة والفن؟