قراءة سوريّة جديدة لصموئيل بيكيتخليل صويلح
نذهب إلى عرض «الشريط الأخير» الذي يحمل توقيع أسامة غنم في تجربته الإخراجية الأولى (إنتاج «سيدا»)، مدفوعين بنجاح مسرحيّة «المهاجران»، التي وقّع فيها الجانب الدراماتورجي، عن نص البولوني سلافومير مروجيك. لكن المفاجأة لن تكون بالقوّة نفسها. المونودراما التي يؤدّيها محمد آل رشي في «دار الأوبرا» في دمشق، عن نص بيكيت «الشريط الأخير» (1958) Krapp's Last Tape، تفتقد المشهدية المعتادة لتتكثّف إلى حدودها الدنيا، في رهان على الصوت، وهو أحد ركائز مسرح بيكيت في إحدى مراحله.
كأن ما يبقى في أرشيف الذاكرة هو الصوت. وما محاولة الرجل السبعيني في الاستماع إلى شريط سجّله قبل 30 سنة، إلا صورة متخيَّلة لأشخاص عبروا حياته، وشكّلوا معالمها اللاحقة... إنّه يعيش عزلة وجودية، مكتفياً بخزانة الذاكرة، وطيف امرأة كان يحبّها. وها هو يكتشف، في مراجعة صارمة لحياته، أنه رجل غبي راهنَ على أشياء كثيرة.
طاولة مكتب وكرسي وآلة تسجيل قديمة، هذا كل ما بقي لهذا الرجل كي يروي خيباته في صالة معتمة. الطاولة بأدراجها المغلقة في مواجهة المنصة، فيما الرجل يجلس في الجهة المقابلة، كأنّ حياته تجري كلّها بالمقلوب. ولفرط عبثيتها، يستدير الرجل لفتح أحد الأدراج، فيُخرج إصبع موز، يتشمّمها بلذة، ثم يقشرها ويلتهمها بنهم. تقشير الحياة الشخصية للرجل عبر شريط التسجيل ينتهي إلى قشور يركلها بقدمه بعيداً، ربما كي لا يتزحلق بها مرةً أخرى.
أداء محمد آل رشي بدا مكبّلاً في «الشريط الأخير»
يحاول بطل بيكيت استعادة خصوصية علاقته بتلك المرأة الغائبة التي تشبه آنا كارنينا في عنفوانها وفتنتها. يعيد الشريط عند جملة محددة، كأنّه يرغب في التأكد من نبرة الصوت للقبض على بهجة لن تستعاد. وتلك المحاولات المتكررة تكشف له أنّ ما سجله عن «انقلاب ربيعي» هو مجرد وهم آخر. سيكتشف أنه لم يغنِّ في حياته ولو مرة واحدة. هكذا يمضي التسجيل في دوران متقطع بقصد «زعزعة التفاؤل المزيّف». يؤكّد فشله في لغة عارية تكشف عري الشخصية نفسها في مواجهة جحيم الآخر، عبر أفكار مرتجلة عن الإدمان والشيخوخة والعزلة والتقوقع والانطواء.
يسعى الإخراج، في هذه المحاولة السوريّة لإعادة قراءة بيكيت، إلى تحطيم أشكال الفرجة التقليدية، وخلخلة بنية الزمن والفضاء، وحتى الشخصية المسرحية. يلعب ورقة الاقتصاد في الأداء الحي المرافق للصوت في شريط التسجيل. بالكاد يغادر الممثل مكانه، ليلجأ مجدداً إلى ذكرياته. لكن أسامة غنم لا يهتدي إلى حلول مشهدية مبتكرة، تعبّر عن فكرة دوران الزمن وثباته. لن نجد إذاً ذلك الأداء الحار لمحمد آل رشي، الذي فاجأنا به في «المهاجران». فقد بدا هنا مكبّلاً جسدياً في هذا الفضاء الضيّق والمعتم. ربما أراد غنم أن يقدّم إلينا المقترح «البيكيتيّ» بدقة لجهة الإخلاص للفكرة على حساب الشخصية... لكنه أضاع عناصر أساسية تتعلّق بغياب الإيقاع الحيوي عند مفاصل النص، وتحولات الشخصية على الخشبة. الخواء الروحي والتمزق والدمار النفسي عناوين أساسية في نص بيكيت، غير أن ردم المسافة بين المقروء والمرئي، وإعطاء أبعاد محليّة للنصّ، لم يأتيا عند المستوى المتوقّع من هذا المسرحي الواعد... باستثناء إشارات واهية. لا مفرّ هنا، من مقارنة أخرى بـ«المهاجران»، التي عمل عليها غنم درامارتوجياً. ذلك أنه يُشغل هذه المرّة باللعبة الإخراجية، على حساب خلخلة النص الأصلي درامياً، وتقريبه من ذائقة المتفرج العربي. كتب بيكيت النص أواخر الخمسينيات، مسلّطاً نظرة عدمية إلى العالم، عبر ما آل إليه البشر في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وسطوة الآلة على المشاعر. واتكأ صاحب «غودو» على أفكار هايدغر في معنى القلق الذي يؤدي إلى لاجدوى الوجود، وفشل الفرد المحكوم بالعودة إلى مراجعة جحيمه الشخصية. ولم تغب عنه أفكار نيتشه بأن الإنسان يسير على «حبل مشدود فوق هاوية». فهل أخذ أسامة غنم كلّ ذلك في الاعتبار، حين بنى رؤيته الإخراجيّة؟


8:30 مساء اليوم وغداً ـــــ «مسرح دار الأوبرا»، دمشق
www.opera-syria.org