حوار العود والكلارينت في «عيون ريتا المذهلة» أحمد الزعتري
في البداية قد ترفض أن تتبعه في أسطوانته الجديدة «عيون ريتا المذهلة» (ECM). المستمع الذي عرفه عبر عملَيه الأخيرين قد يشعر بحالة انعدام التوازن: أين ذهب البيانو؟ لكن أنور ابراهم (1957)، في الحقيقة، يعود هنا إلى قواعده، بعدما خاض لسنوات غمار التجريب، مطمئنّاً إلى العلاقة الوطيدة التي تجمعه بمستمعيه... خطف هذا الموسيقي التونسي الأنظار مع أسطوانتَي «خطوة القط الأسود» (2002) و«رحلة سحر» (2006)، مع رفيقَيه الفرنسيّين جان لوي ماتينييه على الأكورديون، وفرانسوا كوتورييه على البيانو. خلق التريو (الثلاثي) مزاجاً ارتفع عن التصنيفات الضيّقة للموسيقى، عبر توليفة العود والبيانو والأكورديونيومها قال أحد النقّاد عن «خطوة القط الأسود» إنّه عمل «كئيب ويرفع الألم في آن، وتحمل موسيقاه توازناً استثنائياً لمواصفات الموسيقى الشعبيّة». وقد بلغت الكيمياء بين ابراهم ومستمعيه ذروتها، ما دفعه إلى الدندنة وسط المقطوعات بعفويّة في «رحلة سحر». تلك كانت المرة الأولى التي نسمع فيها ذاك الصوت العذب منذ 1986، حين قدّم «طيور على جسد الليل» و«النوّارة العاشقة». ننسى أحياناً، أنَّ العملين المذكورين، السابقين لمرحلة ECM، وضعا ابراهم في مصافّ مجدّدي الجاز: «هذا التونسي ذهب أبعد من العديد من موسيقيّي الجاز، المشغولين بإيجاد موسيقى جديدة»، كما يقول الناقد الألماني وولفغانغ ساندنر.
اليوم، مع «عيون ريتا المذهلة»، يعود إلى مناخاته القديمة التي عرفناها في «برزخ» (1991) و«مدار»، (مع يان 1994) منطلقاً من الدافع نفسه الذي وضعه في مصافّ العالميّة. يستعيد اهتمامه بمنابع الموسيقى الشعبيّة التونسيّة، ومنها إلى الموسيقى الهنديّة والإيرانيّة والأندلسيّة حتى الفلامنكو، كما يستأنف تعاونه مع موسيقيّين من خلفيات مختلفة. توزّعت توجّهات الأسطوانات السابقة: من الموسيقى الشعبيّة التونسيّة في «النوّارة العاشقة» (1986)، إلى النفَس الصوفي في «حكاية الحبّ الذي لا يصدق» (1992) مع عازف الناي التركي قدسي إرغونر، وصولاً إلى عالم الجاز الصرف في «ثمار» (1998)، وموسيقى البحر المتوسّط وأفريقيا وآسيا الوسطى في «مقهى أستراخان» (2000).
في «عيون ريتا المذهلة»، يعود ابراهم المسكون بقلق الباحث، إلى الموسيقى الشرق الأوسطيّة، بما أنه يهدي الأسطوانة إلى الراحل محمود درويش، معنوناً العمل باسم «بطلة» درويش الشهيرة: ريتا وعيونها. مع عازف الكلارينت باص الألماني كلاوس غِزينغ، وعازف الباص الكهربائي بيورن ماير، وعازف الإيقاع خالد ياسين على الدربوكة والبندير (راجع المقالة أدناه)، ينجز ثماني مقطوعات مقتبسة من عوالم درويش الشعريّة: «عاشق بيروت»، «رقص مع الموج»، «توقُّف في جيبوتي»، «عيون ريتا المذهلة»، «البروة»، «الجليل حبيبتي»، «حالة صحو»، «بلا سبب واضح».

ينطلق من النصّ الشعري من دون استهلاكه في ثيمات فولكلوريّة أو أجواء شرقيّة صرفة
لا يمكن الحديث عن تناصّ موسيقي ـ شعري بالمعنى المباشر، كما في تجربة الإخوة جبران «في ظلّ الكلام». التأليف الموسيقيّ هنا يقوم على بنية مستقلة عن التأثير الشعريّ المباشر، إذ ينطلق من أجواء النصّ الشعريّ دون استهلاكه في ثيمات فولكلوريّة، أو أجواء شرقيّة صرفة.
يستعيد الموسيقيّ التونسي هنا تجربة لقاء الكلارينت والعود كما في «ثمار»، ليخرج بتلك الأجواء المتوسطيّة التي يصفها النقاد الغربيون بالـ«الداكنة»، معوّلين على مشهد شرقيّ غامض. تغلب على أجواء الأسطوانة حرارة افتقدناها في الأسطوانتين الأخيرتين: نبرة العود الواضحة وتسيّده للتوزيع الموسيقي، ودوره الكبير في الارتجال، كما في مقطوعتيّ «عيون ريتا المذهلة» و«حالة صحو».
لا يمكن وصف العمل بأنه تغريبيّ. رغم وصوله إلى العالميّة، ظلّ أنور ابراهم من أكثر الموسيقيّين العرب التصاقاً بقضاياه. بعد حرب تموز 2006، جاء إلى لبنان وأنجز فيلم «كلمات ما بعد الحرب»، مستخدماً أعمال زياد الرحباني في الموسيقى التصويريّة، إلى جانب أعماله. أمّا في هذه الرحلة مع درويش، فيعلو على الكليشيهات في القصيدة الدرويشية ذاتها. ينهل من ذائقته واختياراته الشخصيّة، هكذا يختار لإحدى المقطوعات («بلا سبب واضح») عنواناً مستعاراً من قصيدة «لا أقلّ ولا أكثر» (ديوان «سرير الغريبة»).
لا يمكن فصل العمل الجديد عن تجربة ابراهم كما يراها هو نفسه: «تركيزي ينصبّ ببساطة على اللحن الكونيّ، اختيار الآلات يأتي لاحقاً». امتلك الموسيقيّ هذه الرؤية من انفتاحه على الاتجاهات المختلفة، بعد طفولة مشبعة بالتراث، ومسيرة بدأها في العاشرة طالباً في الكونسرفاتوار الوطني التونسي. يذكر ابراهم أنّه تعرّف إلى الجاز في الـ 15 من عمره، عبر عازف البيانو كيث جاريت، ما مثّل له «صدمة كبيرة». تأثر أيضاً بتيار «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسيّة. عند تأليفه أسطوانة «خطوة القط الأسود»، استلهم ابراهم من شجرة خارج شبّاك غرفته: «الأغصان المتمايلة ساعدتني على إيجاد بعض المرونة في الإيقاع»... في عمله الجديد، ما زال ابراهم يحمل قلق ذلك الموسيقي الباحث... وعيناً كونيّة لا تمتلئ أبداً.