مهما كان البعد الكوسموبوليتي للمدينة ــ الإمارة، تبقى السينما العربيّة نقطة الثقل في مهرجانها ومبرّر وجوده. وقد تميّزت دورته السادسة التي تُختتم الأربعاء، باستضافة أفلام ميشيل خليفي، ومجدي أحمد علي، وديما الحرّ...
دبي ــ زياد عبد الله
جاء افتتاح الدورة السادسة من «مهرجان دبي السينمائي الدولي» الأربعاء الماضي، شعرياً بامتياز. طغت على شاشته الكبيرة أشعار محمود درويش بصوته، تلتها تشكيلات بصرية حملت عبارات لشعراء عرب أمثال أنسي الحاج وأدونيس، إضافةً إلى أقوال لجان ـــــ لوك غودار ونجيب محفوظ وغيرهما... كل هذه العناصر اجتمعت في حفلة الافتتاح، تعبيراً عن رهانات هذه التظاهرة التي ترنو إلى الفنّ بوصفه جسراً ومعبراً إنسانياً خالصاً.
فيلم الافتتاح Nine كان مدجّجاً بالنجوم، مسبوقاً بكلمة وجّهها مخرجه روب مارشال من لوس أنجلس إلى مهرجان دبي، الذي يُختتم بعد غد. يستند سيناريو الشريط إلى فيلم فيدريكو فيلليني «8:30» الذي هو أشبه بسيرة ذاتية للمخرج الإيطالي المعروف. يبدو هنا دانيال داي لويس كما لو أنّه مارشيلو ماستروياني في «8:30»، ونعثر على فيدريكو فيلليني خارجاً من فيلمه «8:30» (1963) وداخلاً في فيلمه La Dolce Vita (١٩٦٠).
نحن نلاحق قصة المخرج غيدو كونتيني (دانيال داي لويس) بدل غيدو انسلمي في «ثمانية ونصف» وهو يعاني تعثراً كبيراً في كتابة فيلم جديد يعلنه بعنوان «إيطاليا»، ولم يكن قد أنجز مشهداً واحداً منه. هكذا، يمضي في استعادة نساء حياته كما لو أن الرقم تسعة هو نتيجة جمع ثماني نساء مع رجل واحد. وأولى نسائه ستكون زوجته لويزا (ماريون كوتيّار)، ثم عشيقته كارلا (بنلوبي كروز)، والممثلة كلوديا ملهمة أفلامه (نيكول كيدمان) بوصفها أنيتا اكبيرغ بطلة «الحياة حلوة» التي يصفها فيلليني في مذكّراتها بـ «نمرة جبارة على هيئة فتاة عابثة»، إضافةً إلى ليلي (جودي دينش) مصممة الأزياء وأمينة أسراره، والصحافية ستيفاني (كيت هادسون)، وكذلك أمه (صوفيا لورين)، وصولاً إلى ساراغينا (ستايسي آن فرغسون) المرأة التي أذاقته طعم اللذة الأولى في مراهقته. كل أولئك النجمات يرقصن ويغنين في العمل الجديد لصاحب «شيكاغو».
بعد تلك الاحتفالية، يمضي المهرجان إلى هموم ومآس كثيرة حملتها الأعمال المشاركة. مع «مسابقة المهر العربي»، يأتي المخرج «م» في شريط ميشيل خليفي الجديد «زنديق» لينبش عميقاً في الذاكرة الفلسطينية، ويأخذها إلى مساحة يضيئها المخرج على طريقته بعد غياب طويل. تسمية الشخصية بحرف واحد هو الحرف الأول من ميشيل، ستقابله لدى المغربيَّين عماد وسهيل نوري شخصية يطلقان عليها اسم أو حرف «اكس» في فيلمهما «الرجل الذي باع العالم». هنا، يقدّم الثنائي شريطاً استثنائياً بمقاييس كثيرة، أوّلها أصالته ومحاولته تحويل أدب دوستويفسكي الكابوسي إلى كابوس بصري مشغول بعناية تقودهما إلى تجريب فريد عربياً وعالمياً... مع فتح الباب على مصراعيه أمام استقباله بوصفه «فيلم العام» وهو يُعرض للمرة الأولى في العالم كما هي حال «زنديق».
في المسابقة العربية، تتحول كرة القدم إلى مجاز لمآسي العراق، في فيلم شوكت أمين كوركي «ضربة البداية» من خلال تقديمه الملعب الذي يتحول إلى مخيم للاجئين كبؤرة درامية تختزل العراق. ويستثمر كوركي هذه البؤرة الدرامية بجماليات خاصة تتخذ غرائبيتها من غرائبية الواقع المرصود. إذ يحمل كل شيء مفارقاته. كل ما في المخيم وما حوله هو ضد الحياة، بينما كل ما نشهده هو إصرار على الحياة، وعلى اللعب والشعر، وبالتأكيد على ذلك الحب البريء الذي يجمع آسو بهيلين... لكنّ الانتصار سيكون للموت في نهاية المطاف بوصفه متربصاً بكل مَن في الملعب ـــــ المخيم.
اللبنانية ديما الحر قدمت باكورة أعمالها الروائية الطويلة في المسابقة، وجاءت بعنوان «كل يوم عيد». هنا، يمثّل «الضياع» مفتاح الفيلم بما يشمل الوطن والنساء، والإنسان باعتباره ضائعاً أبدياً، ونحن نشاهد فيلماً يستند إلى قدر كبير من التجريب والترميز. الشريط أشبه بالحلم وبما يقترب من الكابوس، والمصير الوحيد الذي يطال الجميع هو الخسارة: لقد قتل السائق وحل الضياع، ودخل الرجال السجن ومن بقي صار مهجّراً أو في الاستخبارات. يحقّق «كل يوم عيد» تحالفاً بين العبث والرمز... عبث المضيّ في طريق تفضي إلى لا مكان، ورمزية تقود إلى وطن ضائع.
هذا الضياع يقود أيضاً إلى ديغول عيد (1970) وفيلمه في المسابقة الوثائقية «شو صار». يُخرج السينمائي الشاب من ذاكرته الشخصية مجزرة مرّ عليها أكثر من ثلاثين سنة، كما لو أنه يستعيض بالكاميرا عن المحكمة التي لم تطل مرتكبيها. نحن نتحدث هنا عن مقتل 12 فرداً من عائلة المخرج في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1980، رمياً بالرصاص في إحدى قرى لبنان الشمالي. يومها، هاجر عيد إلى فرنسا، ليستقر مع عائلته الجديدة في كورسيكا. لكن صور تلك المذبحة لم تفارقه، حتى قرر العودة إلى وطنه، ليكتشف أن جيران الماضي، الذين شاركوا في مذبحة عائلته، ما زالوا يعيشون في المنطقة نفسها، في ظل اتفاقية العفو الصادرة عام 1993، التي تمنح جناة الحرب الأهلية الحصانة من المساءلة القانونية. تكمن الفجيعة في تفاصيل رواية المخرج للمجزرة، وخصوصاً حين يصوّر كيف اختبأ في الحمام مع أخيه، وكيف كان القتلة ينادون على أبيه. وما إن خرج الوالد حتى تلقّته رصاصة.
وفي ملمح آخر، يسعى الفيلم إلى تقديم دوافع القتلة في ما يبدو انتقاماً من شخص كتائبي من عائلة عيد، اسمه إيلي قتل أخوين من آل دياب ينتميان إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي. وهو الأمر الذي ينفيه إيلي، مع أنّ للكاميرا ما تقوله أيضاً في مسألة نفيه.. ربما!
بعيداً عن المسابقة الرسمية، يأتي افتتاح برنامج «ليال عربية» بفيلم «دار الحي» بمثابة الحدث الأبرز في المهرجان، لكونها المرة الأولى التي يُفتتح فيها هذا البرنامج بفيلم إماراتي. هنا، يقدم المخرج علي مصطفى رصداً واقعياً لمدينته دبي، وهو يقارب العيش

كرة القدم في مخيم لاجئين، تتحوّل مجازاً لمآسي العراق في «ضربة البداية»

المختلط ونقاط الاشتباك بين الجنسيات في الإمارة. إنه يوثّق نمط العيش الذي تمليه هذه المدينة الكوسموبوليتانية، ويأتي بثلاث لغات نسمعها تتردّد يومياً فيها، وهي العربية والإنكليزية والهندية. إنه شريط مأخوذ في مدينته، وينسج حكايته وفق إملاءاتها وواقعها، ويسعى إلى تعقب البشر وحياتهم بعيداً عن صورتها السياحية المعقمة، بل بوصفها مدينة للأحلام والخيبات.
وحلّقت «عصافير النيل» في سماء دبي، ضمن عروض المسابقة العربيّة. في فيلمه الجديد، يقدّم مجدي أحمد علي رواية إبراهيم أصلان سينمائياً. وتتنافس في «مسابقة المهر الآسيوي الأفريقي» أيضاً أهم إنتاجات هاتين القارّتين، كما هي الحال مع فيلم الإيرانية شيرين نشأت «رجال بلا نساء»، وفيلم مواطنها محمد رسولوف «السهول البيضاء»، حيث النساء يشكلن معبراً إلى قول كل شيء: أربع نساء مع نشأت، وامرأة تجمع الدموع مع رسولوف، ومعهما في المسابقة جديد الفيليبيني بريلانتي ميندوزا «لولا»، وفيلم الصينية ونلي جيانغ «لان»، وهي تروي سيرتها الذاتية بوصفها طفلة الثورة الثقافية.


زمن التحوّلات

معظم الأفلام التي قدّمتها «دبي» من آسيا وأفريقيا، تتناول مسألة الصراع بين الأفراد والدولة، وخصوصاً في زمن التحولات السياسية. هكذا، يعرض شريط يون فان (الصورة) «أمير الدموع» الحملة ضد الشيوعية، التي جرت في الخمسينات في تايوان. فيما تدور أحداث «حدود» لهاروتيون كاشاتريان في أرمينيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويضيء الشريط على الصراع الأرميني ــ الأذربيجاني من خلال قصة قرية حدودية تقع بالقرب من منطقة النزاع.