في كتابه «تطوّر النظرة الإسلامية إلى أوروبا» (دار الريس)، ينقّب الباحث والمؤرخ اللبناني عن الإرهاصات الأولى لحضور أوروبا في الوعي الإسلامي، ويتعقّب تطورها وتحولاتها وفق كرونولوجيا تقودنا إلى الزمن الحالي
حسين بن حمزة
هناك خط بياني واضح لنظرة الأوروبيين إلى المسلمين. البداية من الآراء الغرائبية عن الإسلام في القرن التاسع الميلادي، وصولاً إلى الحروب الصليبية، ثم بروز أعمال ركزت على الجانب العقائدي، وسعت إلى معرفة أكثر موضوعية. ومع انحسار نفوذ الكنيسة، انتقل الاهتمام إلى أيدي أدباء ومترجمين وجغرافيين، قبل أن ينضوي هؤلاء جميعاً داخل مفهوم «الاستشراق». لكن أين المقابل الإسلامي لنظرة الأوروبيّين إليهم؟ لماذا اهتم الأوروبيون بنا، ولماذا لم نقلِّدهم في ذلك؟ كيف نظر المسلمون إلى أوروبا؟ لماذا لم يُقدَّر لأعمالهم وجهودهم أن تنتظم في سياق متصل أو في خط بياني مماثل؟ لماذا تأخر المسلمون في الالتفات إلى أوروبا؟ وما هي العوامل التي جعلت هذا الالتفات، ثم الاحتكاك والتأثر والصراع، ضرورياً وممكناً؟ هذه عيّنة من الأسئلة التي يحاول الباحث والمؤرخ اللبناني خالد زيادة استعراضها والإجابة عنها في كتابه «تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا» (دار الريس).
ينقِّب صاحب «يوم الجمعة يوم الأحد» عن الإرهاصات الأولى لحضور أوروبا في الوعي الإسلامي، ويتعقّب تطورها وتحولاتها وفق كرونولوجيا متصاعدة تقود القارئ إلى الزمن الحالي. الشذرات والأجزاء المستخرجة من بطون المراجع الإسلامية لا ترقى إلى المسار الأوروبي، الذي قام على تراكم تاريخي وسياسي وأدبي طويل ومستمر. لكن فكرة رسم خط بياني إسلامي مماثل ومعاكس لنظرة الأوروبيين إلينا تبدو مغرية وجذابة. وهي فكرة حاول المفكر المصري حسن حنفي في كتابه «مقدمة في علم الاستغراب» (1991)، إيصالها إلى مستوى العلم أو الممارسة النظرية والفلسفية المجابهة للاستشراق، لكن الاقتراح أُجهض بانتقادات واعتراضات عدّة، جاء آخرها من صادق جلال العظم.
خالد زيادة الذي سبق حنفي في دراسة هذه الظاهرة لا يُضمر نيةً كهذه، فهو لا يبدأ من فرضية ويبحث عن براهينها. لا نجد في كتابه إصراراً مسبقاً على جمع الوقائع بطريقة تلائم أو تبرهن على فرضية مسبقة. ثمة شغل على التاريخ الحقيقي للمعايير والظروف التي حكمت نظرة الإسلام إلى أوروبا، بدءاً بالمؤلفات المبكرة للجغرافيين والرحالة المسلمين، فيتناول في الفصل الأول «النظرة التقليدية إلى أوروبا» كما ظهرت في المؤلفات الإسلامية الأقدم في هذا السياق. يستعرض زيادة جهود ابن خرداذبة وابن رستة وابن فضلان والمسعودي والإدريسي... ويستنتج أن الجغرافيين القدامى قدموا معلومات متضاربة عن أوروبا، وأهملوا أنّها مؤلفة من دول وقوى سياسية. سننتظر حتى القرن الخامس عشر، وسقوط القسطنطينية بيد العثمانيين، كي تشهد النظرة إلى أوروبا تبدلاً مهماً، إذْ حتَّم ذاك الحدث المفصلي أن يزيد كل طرفٍ معرفته بالآخر وأن ينظر إليه كواقعٍ قائم. هكذا سنعرف أن حملة نابليون بونابرت لم تكن أول احتكاك مع الأوروبيين، وأن العثمانيين فعلوا ذلك قبل الحملة بقرن كامل تقريباً. تجلى ذلك أثناء حكم السلطان أحمد الثالث (1703 ـــــ 1730) الذي أدرك ضرورة الأخذ بالخبرات الأوروبية لتحقيق بعض الإصلاحات. وشهدت تلك الفترة تأسيس أول مطبعة في «استامبول» عام 1727، كما أُرسل عدد من الموفدين إلى باريس لمعرفة ما يمكن اكتسابه من المؤسسات الفرنسية. ثم ازداد الانفتاح في عهد السلطان سليم الثالث (1792 ـــــ 1809) ومحمود الثاني، وخصوصاً أن الثورة الفرنسية أدخلت تطوراً جديداً في صورة أوروبا وهو أن النظام السياسي فيها يقوم على مبدأ الحرية. «صورة أوروبا الليبرالية»، وهو عنوان الفصل الثالث، سيجري استعراضها في تجارب نظرت إلى أوروبا كمثال يُحتذى به كما هي الحال عند: رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين

نبرة مشوِّقة يمتزج فيها الجهد الوثائقي بالنفَس السردي

التونسي... ثم نشوء ثلاثة تيارات: الأول يُناصر ممثلوه التأثر بأوروبا (الأفغاني، محمد عبده، طه حسين، علي عبد الرازق...)، والثاني يعادي أوروبا (المودودي، مالك بن نبي، محمد إقبال، محمد قطب...)، والثالث توفيقي (زكي نجيب محمود، الزيات، مصطفى محمود...). أما في الفصل الأخير، فيتناول المؤلف آراءً راهنة، باحثاً في كتابات عبد الله العروي وهشام جعيط ومحمد عابد الجابري. ويترك النهاية مفتوحة أمام تصورات وسجالات جديدة، لن تتوقف ما دام الواقع نفسه يعزّزها بأحداثه وتطوراته المتواصلة.
لا يُغفل زيادة أي رأي أو وجهة نظر في موضوع كتابه. لا يتسرّع في الحكم عليها، ولا ينحاز أو يتحمّس لبعضها على حساب بعضها الآخر، بل يكتفي بإيرادها ومقارنتها تاركاً للقارئ مهمة الحكم. في المقابل، يشير الكاتب إلى أن السنوات الأخيرة «شهدت تصاعد العداء بين المسلمين والغرب، وبعث ذكريات التاريخ المنسيّ، على عكس التوقعات التي كانت تأمل تجاوز صراعات الماضي» ويعدنا بدراسة هذه الحقبة في كتاب مستقل.
أخيراً، ينبغي القول إن صاحب «كاتب السلطان» يقدم إلينا، كالعادة، جرعة أخرى من نبرته المشوِّقة التي يمتزج فيها الجهد الوثائقي بالنفَس السردي. الأرجح أن إحدى الفوائد المهمة لمثل هذه المؤلفات ـــــ وخصوصاً للقارئ غير المتخصص ـــــ أنها تلخص التاريخ، وتقدم بأسلوب سلس ومشوّق الخطوط العريضة والمتشعّبة التي صنعت ذلك التاريخ.