محمد خير«قالت بلهفة وهي تشير إلى أعلى: انظر! تابعت إشارتها فرأيت لدهشتي طاووساً يجثم في هدوء فوق غصن كبير لشجرة الأرز، ويتدلّى ذيله الأزرق من الغصن الأخضر مشدوداً ومتماسكاً. قالت صاحبتي في ذهول: كيف وصل هذا الطائر العجوز إلى هناك؟ ردَدت وأنا بمثل حيرتها: وما يدريني؟ أنا لم أكن أعرف أصلاً أن الطواويس تطير». في مجموعته «لم أعرف أن الطواويس تطير» (الشروق ـــــ القاهرة)، نرى بهاء طاهر في غربته الأوروبية حيناً، وفي استراحة الحكي حيناً آخر، حيث العمر في مرحلة التعب. بيد أن الأسئلة لم تنته، وكذلك البحث عن معنى الحياة. في القصة التي تحمل المجموعة اسمها، يعود الراوي زائراً إلى مقر عمله في الهيئة الدولية التي تركها إلى المعاش قبل سنوات. يلتقي زميلة أوروبية لم تكن قد انتبهت أصلاً إلى أن الراوي لم يعد زميلاً. تجلس مصادفةً إلى جواره في الحديقة التي منحها الثري المحسن القديم للهيئة. وشرط المنحة أن تتحرك الطواويس حرةً في الأجواء. وإذا بالاثنين يفاجآن بالطاووس العجوز وهو يعتلي الشجرة الشاهقة، وتلتفّ الجموع وتستدعى المطافئ، ويصعد الإطفائي السلم حتى يحاذي الطاووس، ويرمي شبكته وسط تصفيق الجمهور. «لكن في اللحظة ذاتها التي كان يرمي فيها الشبكة، رأيت ذيل الطاووس المتشنّج يرتفع ثم فرد جناحيه بصورة خاطفة، وحلّق طائراً نحو غصن أعلى من الشجرة نفسها.
تنتقل حماسة الجمهور تدريجاً إلى جانب الطاووس. لكن الصراع يبدو محسوماً كمعظم الصراعات في القصص الست التي تضمّها المجموعة: الخوف والموت والشك والقلق كلها تنتصر أو تنتظر انتصارها على مهل. لكن لا شيء يمنع أبطال القصص من أن يفعلوا كالطاووس العجوز، أن يجرّبوا حريتهم ولو مرة، أن يصعدوا الأغصان ويتنفّسوا التجربة ويستمتعوا بلحظات تحدٍّ مهما قصرت. بل إنّ أقدم حراس الأمن في قصة «سكان القصر» ـــــ بعدما يئس من علاج مرضه ـــــ يلجأ إلى أمنيات بعثها فيه صديق، أوعز إليه أن «الأرواح» قد تجري له الجراحة عبر رجل صالح هو أستاذ في

الخوف والموت والشك والقلق كلّها تنتصر هنا
الهندسة! فيستشير بقية الحراس، الذين يحرسون قصراً لا يعرفون حتى من الذي يسكن فيه. نرى الجميع بشراً ولا بشر، مسكونون بالحياة ومفرغون منها في آن واحد. لكنّهم يجدون طريقة لعيشها كما تفعل السيدة سوروندون بويل في قصة الجارة التي تبهر الراوي وزوجته بتمسّكها بالحياة في تلك «المدينة الفرنسية الصغيرة المحافظة». الأرملة سوروندون تطرق بيت الرواي أحياناً من دون سبب، وأحياناً لأنّها «لا تستطيع أن تتنفس». تتعدد الحجج، من الواضح أن مشكلتها هي الوحدة: ابنها يعيش في باريس وحفيدتها تدرس في أميركا. والأرملة سوروندون هي النموذج المتقدّم من الزوجين الراوي العربي المهاجر، وزوجته روزالين، اللذين ترك ابناهما المنزل بمجرّد التخرّج. لذا، فمخاوفها ووحدتها، تتبدّى للزوجين كمرآة تفضح مستقبلهما المحتمل. لكن الجارة تضيء لهما نوراً ملهماً، برفضها الخضوع للجراحة لأنها لا تريد أن تفرط في يوم محتمل «لا أريد أن أموت وأنا مخدّرة، أريد أن أكون مفتوحة العينين وأنا أودّع الدنيا» تقول للراوي، وتغادر المستشفى «ما أهمية أن أعيش مئة عام على هذا السرير أو على سرير مثله في أيّ مكان؟».