تغوص الإعلاميّة والباحثة ندى عبد الصمد في الذاكرة اليهوديّة اللبنانيّة، مقتفيةً أثر تلك الطائفة التي كاد يلفّها النسيان. قراءة أوليّة في «وادي أبو جميل ــ قصص عن يهود بيروت» (دار النهار)
بيسان طي
حين تمر السنوات، يبدو أثرها أكبر من تراكم الغبار على الذاكرة الجماعية. الوقت حارس النسيان، هذا أوّل ما يتبادر إلى الذهن حين تقرأ كتاب ندى عبد الصمد «وادي أبو جميل ـ قصص عن يهود بيروت» (دار النهار). لا شيء في المدينة يذكّر بأن ثمة يهوداً ولدوا وعاشوا في لبنان وكانوا من أبناء هذا الشعب. مضى على رحيلهم عقود أنستنا وجودهم والأسئلة التي طُرحت لدى رحيلهم: كيف اختفوا. كانت الإجابات تصب في خانة واحدة: «لقد ذهبوا إلى إسرائيل»...
قبل ثلاث سنوات، بدأت مراسلة إذاعة «بي بي سي» العمل على تجميع قصص يهود عاشوا في وادي أبو جميل. خلال الإعداد للمشروع، لم تجد عبد الصمد سوى ليزا مزراحي. فيما رحل اليهود الآخرون في غياب المستندات التي تُذكِّر بوجودهم وإقامتهم في الوادي. بقي أصدقاؤهم وجيرانهم... وما يحفظه هؤلاء من ذكريات عن حياة طبيعية عاشها أبناء الطائفة في لبنان قبل أن يرحلوا.
يضمّ كتابها 24 قصة عن 24 شخصيّة، آخرها ليزا مزراحي، منقولة عن لسان الذين عاشروا تلك الشخصيات. الكتاب عمل استقصائي بحت: جمعت عبد الصمد معلومات عن كل شخصية عبر مقابلات عدة. التقت بأناس لا يعرف بعضهم بعضاً ليتحدثوا عن شخصية محددة، ثم دققت في المعلومات وتأكدت من تقاطعها وصاغتها. أرادت أن تكون القصص مكتوبة بأسلوب روائي، لكنها لم تفلت من لمسة الصحافي الراغب في تقديم أكبر قدر من المعلومات.
سليم مزراحي والدكتور شمس وخليل الصقّال ونهى والخواجة روبين و... بعضهم أسماؤهم حقيقية، وآخرون جرى تعديل أسمائهم بناءً على رغبة المعنيين. أهم ما في قصص هؤلاء، أنها تلفت إلى الظروف السياسية والتاريخية التي أحاطت بالحياة في تلك الفترة، أي بعد النكبة. واللافت أن عدد اليهود في لبنان زاد بعد النكبة، لم يعانوا من ضغوط: سليم مزراحي مثلاً شيوعي تزوج رفيقته ماري، وهو يهودي عراقي هجر بغداد بعد النكبة لاجئاً إلى لبنان. الدكتور شمس كان طبيب الفقراء، ونهى موظفة في وزارة الاقتصاد يُعتقد أنها كانت «جاسوسة لمصلحة إسرائيل». وفي إحدى القصص، يخيّم طيف «أم كلثوم» التي تربعت في قلوب أبناء الطائفة اليهودية.

يورد الكتاب أفكاراً شائعة في حاجة إلى تمحيص وتحديد

كل قصة، نتابع مجيء بطلها إلى وادي أبو جميل ـ أو ولادته فيها ــ وعلاقته بجيرانه، ومهنته... ثم تتقاطع القصص عند الرحيل الصامت. قلة أسرّوا لمعارفهم أنّهم ينوون الرحيل، ومنهم من واظب على بعث رسائل لأصدقائه في لبنان عبر البريد القبرصي. هل ذهب كل يهود وادي أبو جميل إلى إسرائيل؟ تفيدنا عبد الصمد بأن ثمة من رفض ذلك، واختار وجهات أخرى مثل كندا وغيرها. وهناك آخرون رحلوا فعلاً إلى البلد الذي سيظل عدواً للبنان بلدهم الأول. ومن بين هؤلاء مَن عاد محتلاً عام 1982 مثل ماركو، ابن ماري وسليم مزراحي.
الكتاب شهادة موضوعية عن تلك المرحلة، لا تتضمن أي رأي حول قضيّة اليهود اللبنانيين، على خلفيّة الصراع مع إسرائيل، بمختلف وجوهها الوطنيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة... وصولاً إلى هجرتهم. ويلفت الكتاب، الغنيّ بالمعلومات، إلى تساهل الدولة اللبنانية ـ في الفترة القريبة من النكسة ـ مع الوكالة اليهودية التي كثّفت نشاطها لإغراء هؤلاء المواطنين اللبنانيين بالرحيل إلى إسرائيل. لكنّ ندى عبد الصمد تنساق أحياناً إلى تعميمات، وتورد معلومات غير دقيقة، تاركة شبهة لاساميّة غامضة تلتصق بالتيارات الوطنيّة التي وقفت في مواجهة المشروع الصهيوني. نفكّر مثلاً بإشارتها، في إحدى القصص، إلى أنّ أحزاباً أو منظمات قومية عربية دعت إلى مقاطعة اليهود في لبنان. وهذا النوع من الأفكار الشائعة في حاجة إلى مزيد من التمحيص والتحديد.

ضمن «معرض بيروت للكتاب»، توقّع ندى عبد الصمد كتابها في جناح «دار النهار» بين الخامسة والثامنة من مساء اليوم في «بيال»