حسين بن حمزةكان صدور «الآثار الشعرية الكاملة» (دار الجمل) التي كتبها راينر ماريا ريلكه بالألمانية حدثاً بارزاً هذه السنة، ولن نجد هدية شعرية أثمن يمكن أن نقدمها إليك أيها القارئ. قد يخطر في بالك أنّ ريلكه أكثر دسامةً وتعقيداً مما تكون عليه الهدايا عادةً، ولكن هذا الإيحاء ـــــ وهو حقيقي للمناسبة ـــــ سينقشع بسرعة حين تبدأ بتصفُّح أعمال شاعر تتغذَّى مخيّلته الشعرية من هشاشته الداخلية التي قد ترى فيها هشاشتك وهشاشة الكائن الإنساني في المطلق. إذا كنت من عشاق الشعر ومتابعيه، فلن تكون هذه الترجمة الجديدة والمتكاملة التي أنجزها الشاعر العراقي كاظم جهاد غريبةً عنك. لا بدّ أنكَ قرأت سابقاً «مراثي دوينو» بترجمة فؤاد رفقة، ولا بدَّ أنّ مطلع المرثية الأولى لا يزال يتردد في ذاكرتك: «من لو صرختُ سيسمعني/ في مراتب الملائكة؟ ولو حدث يوماً/ أن يضمَّني أحدهم فجأة إلى قلبه/ فسأفنى بباعثٍ من حضوره القوي/ ذلك أن الجمال/ إنْ هو إلا بداية الرعب، ما لا نكاد نقدر أن نحتمله/ ولئن كنا نلفيه جميلاً فلأنه، ببرودٍ، يأنفُ من تحطيمنا/ مرعبٌ هو كلُّ ملاكْ». أمامك إذاً فرصة ثانية للتلذّذ والصمود في وجه «العاصفة الإلهية التي لا يحتملها أحد»، كما وصف ريلكه نفسه مراثيه التي نادراً ما نجا قارئٌ من تأثيرها كواحدة من صروح الشعر الخالدة والفريدة، حيث يتحالف الإنشاد الجنائزي مع العزلة القصوى للكائن من أجل تحويل جوهر الوجود الإنساني إلى صورٍ واستعاراتٍ آسرة.
ثمة عوالم وتأويلات وترميزات هائلة تربض تحت قصائد ريلكه التي ستبدو لكَ منسابةً ومموسقة كأنها محض لحنٍ شجيٍّ وحزين. يمكنك أن تكتفي بالمعاني التي تصلك على الفور. لكن حتى هذه القراءة العاجلة لن تُنجيك من المذاق الشعري الذي لم تجرّب مثيلاً له من قبل. أغلب الشعراء الألمان استثمروا هذه المناخات وحوَّلوها إلى ممارسة شعرية تعادل ممارسات زملائهم الفلاسفة. هناك أبديّة ما تصاحب أعمالهم إلى حدٍّ شاع فيه أن الشعر الألماني يعيش مع الفلسفة تحت سقف واحد. ألم يقل هايدغر: «كل ما كتبته في كتابي «الكينونة والزمان» موجود في شعر ريلكه»؟.
كان الموت الشغل الشاغل لقصائد ريلكه. كأن الكتابة كانت تأملاً متواصلاً في معنى الفناء. الشاعر الذي ستحلُّ ذكرى رحيله الثالثة والثمانين بعد خمسة أيام، كتب يوماً قصيدة عُدّت شاهداً على قبر: «الموت كائنٌ كبير/ ونحن أبناؤه/ بأفواهنا الضاحكة/ وعندما نحسبُنا في صميم الحياة/ يجرؤ هو على البكاء/ في داخلنا».
رغم أنك تقرأ شعراً مترجماً، إلا أنك ستسأل نفسك: لِمَ يترقرق ما أقرأه بهذه العذوبة الصافية؟ الحق معك. لقد بُذِل جهدٌ كبير من صاحب القصائد ـــــ ومن مترجمها ـــــ كي تحظى بهذا الكنز الشعري المشعّ. ستُلفتك المهنية والذكاء في تتبِّع مقاصد ريلكه، سواء في المقدِّمة الشفافة للترجمة أو في القصائد نفسها وقد انتقلتْ ـــــ محتفظةً بمعظم حمولتها الشعرية ـــــ إلى لغة الضاد.