أطفأت أخيراً شمعتها الثالثة عشرة، ما زالت تَقسم الآراء حولها. المحطّة التي مثّلت ترجمة مبكرة للثورة المعلوماتية، وقفت ضدّ السياسات الاستعمارية على شعوب المنطقة وقدّمت صورة عن المأساة الإنسانية في زمن الحرب

بدر الإبراهيم
يختلف على تقييم «الجزيرة» محبّوها وكارهوها، لكنهم قد يتّفقون على أنها كانت ترجمة مبكرة للثورة المعلوماتية في العالم، وأنها مثّلت نقلة نوعية في الإعلام العربي على صعيد الشكل والمضمون. ظهرت قناة «الجزيرة» في ظل سيطرة الخطاب الإعلامي الرسمي على الصورة، وتقييده الخبر وتقديم ما يجب أن يسمعه المواطن بطريقة تقليدية ممجوجة، فنقلت الفضائية القطرية الإعلام العربي إلى عصر آخر فيه صناعةٌ للخبر وتميّزٌ في أسلوب تقديمه ومساحات للحوار والآراء المتباينة. لكن الأهمّ هو أنّ هذا كله قُدِّم ضمن مساحة واسعة من الحرية لم تتوافر من قبل.
قيل الكثير في «الجزيرة»، قيل إنها إخوانية، وبعثية و... إرهابيّة أيضاً. كل ذلك ليس دقيقاً. هذه المحطة تمثّل الرأي الشعبي لا الرسمي. وكلمة السر هنا هي العداء لأميركا وإسرائيل، فالشعوب العربية تندفع إلى تأييد أي خطاب معادٍ لهما. و«الجزيرة» تعكس هذه النظرة الشعبية في أخبارها وبرامجها. مع أنه قد يُؤخذ عليها شعبياً لقاءاتها مع المسؤولين الإسرائيليين، لكن ذلك لم يمنع المشاهدين من اعتبارها صوتهم الإعلامي.
لم تكن «الجزيرة» حيادية ولا موضوعية. أساساً، ليس هناك إعلامٌ حيادي أو حتى موضوعي في العالم. هكذا انحازت القناة لرأي الشعوب وخياراتهم، فيما انحاز منافسوها لتلميع الخطاب الرسمي. ورغم ما لهذا الأمر من حسنات، إلا أنّ «الجزيرة» فوّتت فرصة صناعة رأي عام عربي وتوجيهه، واكتفت بمسايرة المشاعر الشعبية ومنحها فرصة للتنفيس.
وعلى امتداد سنواتها الثلاث عشرة الحافلة بالحروب والأحداث الكبرى، وقفت المحطة القطرية ضد السياسات الاستعمارية والاعتداءات الإسرائيلية ــــ الأميركية على شعوب المنطقة والعالم، فنجحت في إظهار صورة المأساة الإنسانية التي صنعتها آلة الحرب. ولكنها في الوقت عينه وضعت الإرهابيين والأنظمة الشمولية في سلة واحدة مع قوى المقاومة، فكان التسطيح في الخطاب المتوثِّب لنقل الحقيقة.
لم يكن هذا النهج ليُعجِب الأنظمة العربية. هكذا، حصلت القطيعة مع «الجزيرة»، وبدأ الإعلام الرسمي وشبه الرسمي بمهاجمة خطابها. كما أُغلقت مكاتبها وفُرِضت القيود على مراسليها في كثير من الدول العربية بدءاً من فلسطين ومصر. لكنّ «الجزيرة» استمرت في تأييد الرأي الشعبي المناقض بطبيعته للخطاب الرسمي، وفي فضح الهزال الذي وصل إليه النظام الرسمي العربي في التعاطي مع القضايا الكبرى وتفريطه بالمصالح العربية وتبعيته للسياسات الاستعمارية.
ورغم أن المحطة حرصت على استضافة معارضين عرب هنا وهناك، إلا أنها لم تدخل في العمق في قضايا حقوق الإنسان وغياب الديموقراطية وقضايا التطوير والتنمية في العالم العربي، وانشغلت بملاحقة التفاصيل اليومية. لذلك، كان صراعها ولا يزال مع الأنظمة يتعلق بالموقف من قضايا الأمة الكبرى مع تعريج (لا يمكن الاستهانة به عموماً رغم أنه ليس بالعمق الكافي) على قضايا الحريات وحقوق الإنسان. كما أنّ القناة لم تتمكن من نقد الموقف القطري التطبيعي مع إسرائيل، ما عرّضها لاتهامات بالازدواجية لم تستطع ردها.

فوتّت على نفسها فرصة لصناعة رأي عام عربي واكتفت بمسايرة المشاعر الشعبية

وفي تفاصيل البرمجة، يبدو واضحاً أنّ البرامج الحوارية تأخذ مساحةً مهمة على شاشة «الجزيرة». وتتراوح بين الحوارات الهادئة كما في برنامج غسان بن جدو المتميز، «حوار مفتوح» (السبت 21:05)، والعروض الصاخبة الملأى بالشتائم كما في «الاتجاه المعاكس» (الثلاثاء 21:05) مع فيصل القاسم. ولكنها جميعها تغرق في التفاصيل السياسية متناسيةً قضايا الفكر والمعرفة والقضايا ذات الطابع الاستراتيجي التي يحتاج المشاهد إلى رؤية نقاشات حقيقية فيها.
كما تُكثر «الجزيرة» من عرض البرامج الوثائقية المدبلجة من دون حرص كبير على إنتاج برامج مشابهة لـ«حرب لبنان» و«حكاية ثورة». وهي بحاجة إلى أكثر من تخصيص ساعة أسبوعياً للإعلامي محمد حسنين هيكل (الخميس 21:05) وساعة أخرى لبرنامج «شاهد على العصر» (الاثنين 19:05). كما تحتاج إلى زيادة الجرعة الثقافية في القناة من خلال برامج جيدة يتفاعل معها المشاهد وتستضيف أدباءً وكُتّاباً وفنانين، إضافة إلى تخصيص مساحة لمناقشة قضايا المرأة العربية والقضايا الاجتماعية الملحّة في العالم العربي.
تدخل «الجزيرة» عامها الرابع عشر وهي الأكثر قدرةً على التأثير في المشاهد العربي. ومع ذلك، لا تزال تعاني قصوراً هنا وسلبيات هناك، غير أنها تقوم هذه الأيام بتغيير في الشكل والمضمون بهدف التطوير مع الحفاظ على النهج نفسه والتوسّع في سلسلة قنواتها الخاصة الناجحة أيضاً (راجع صفحة 19). ويبدو أن النجاح مستمرّ... والغضب أيضاً.


إعتداءات متكررة

رغم النجاح الكبير الذي حققته قناة «الجزيرة»، لم يمرّ عام واحد دون أن يتعرّض احد أفراد طاقمها إلى هجوم أو إعتداء ما. ولعلّ أبرز الأحداث كانت استشهاد مراسل المحطة في بغداد طارق أيوب (2003). وإن كان إستهداف القوات الإحتلال الأميركية أو الإسرائيلية لمراسلي المحطة يبدو مبرراً، فإن تعاطي الأنظمة العربية مع هؤلاء كان مستغرباً في كثير من الأحيان. هكذا إعتدى بعض «المجهولين» على مراسل القناة أحمد منصور في القاهرة أثناء تغطيته للإنتخابات التشريعية المصرية عام 2006. كما تمّ الهجوم على مراسل المحطة في اليمن أحمد الشلفي أثناء تغطيته لتظاهرة في محافظة الضالع (2009). وتطول اللائحة لتشمل الإعتداء على ياسر أبو هلاله (الصورة ــ 2009) في الأردن، ثمّ إقفال مكاتب القناة في الضفة الغربية في فلسطين في العام الحالي...