المشروع الذي انطلق من باريس، حطّ رحاله أخيراً في دمشق. تظاهرة ضخمة نادراً ما تشهد مثلها عاصمة الأمويّين
دمشق ـــ خليل صويلح
قبل سنتين، راودت خلدون زريق صاحب مؤسسة «أوروبيا» للنشر والمعارض في باريس، فكرة إقامة معرض يجمع بين دمشق وباريس، إضافةً إلى نصوص يكتبها مثقّفون من البلدين، تعبّر عن معنى الهوية، وأهمية اكتشاف الآخر. المحطة الأولى بدأت من باريس، العام المنصرم، خلال معرض ضمّ 60 تشكيلياً من البلدين في رواق «معهد العالم العربي». وها هو المعرض يحط في دمشق ضمن تظاهرة تشكيلية ضخمة من النادر أن تشهد مثلها عاصمة الأمويين.
لكنّ زائر المعرض لن يجد ما يبتغيه تماماً، بخصوص العنوان المقترح «دمشق ـــــ باريس: رؤى متبادلة»، ذلك أن معظم الأعمال المشاركة (120 لوحة) لم تضع في اعتبارها خصوصية المدينة الأخرى، أو الاشتباك مع مفرداتها وخصائصها الجمالية. تغيب الخبرة بالمدينة الأخرى عن معظم الأعمال المشاركة، ليحل مكانها الحدس... فهل تكفي مبادرة من هذا النوع، في استنباط حوار ثقافي حقاً؟ سؤال يلح علينا خلال تجوالنا في قاعة المتحف الوطني في دمشق، التي احتشدت بتجارب وتيارات متباينة.
نقع على أعمال تشكيليين سوريين ينتمون إلى ثلاثة أجيال، ما يمنح المتلقي فرصة لاختبار تحولات المحترف السوري خلال العقود الخمسة الأخيرة، ومقارنته بتجارب تشكيليين سوريين مهاجرين من جهة، وفرنسيين نتعرف إلى أعمالهم من جهةٍ ثانية. هكذا سنفاجأ بوجود عمل لبشار العيسى بعد غياب. التشكيلي السوري المهاجر تخلى عن ألوانه الزاهية، ومضى نحو ألوانٍ خافتة، ومتقشّفة. أما مروان قصاب باشي فحلّ ضيف شرف، وهو يشارك بثلاثة أعمال قديمة، تنتمي إلى بورتريهات تعبيرية ميّزت حقبة أساسية في تجربته المديدة. «تجليات» نذير نبعة شاهدناها سابقاً. وهذا ما يمكن قوله عن أعمال أحمد معلا، وسارة شمة، وشلبية إبراهيم، ونذير إسماعيل...
لعل المفاجأة تكمن في أعمال آخرين، لم يكونوا في الواجهة مثل إدوار شهدا، ولجينة الأصيل، حسكو حسكو، وإيمان حاصباني، وياسر حمود، ومحمد المفتي. فلا يتمكّن الزئر من تأمل هذه المتاهة البصرية بعمق، نظراً إلى زحام الأعمال. وبالكاد سيلمح صورة باريس أو دمشق بوصفها شحنة تحريضية للون، أو سبباً في إنجاز الفكرة التي قام عليها المعرض. ربما كانت أعمال نزار صابور وغسان نعنع وإدوار شهدا، مزيجاً من إشراقات دمشق وصخب باريس على قماشةٍ واحدة. أما علا عبد الله، المقيمة في باريس، فتستوحي ألوانها من مناخات دمشقية في «جنة المشمش». لكن ماذا عن أعمال الفرنسيين؟ هناك مسافة بين طرفي المعرض حتماً. التجريد سمة أساسية في الضفّة الأخرى. هذا ما تؤكده أعمال كورين سيليفيا

فرنسيّة ترسم جسداً عارياً وتحجبه بزخارف إسلامية

كونجيو، وجان لوك دوسانتي... فيما تقترح أعمال آخرين نفحة شرقية في مقاربة معنى دمشق. ننتبه إلى سطوة اللون الترابي على السطوح كما في «دمشق» جان جاك لابواريه. أما آنا بولا بورتيّا، فتختار جسداً أنثوياً عارياً وتحجبه بزخارف إسلامية. لعلها في هذه الصياغات تختزل مأساة الجسد الشرقي تاريخياً! باختصار، تنطوي الرؤية الباريسية لصورة دمشق على مفاهيم مستقرة لروحانية الشرق، فيما تغيب عن أعمال التشكيليين السوريين النظرة المضادة، إلا في ما ندر. كأن عبارة «الحوار الثقافي» غائبة أصلاً، أو مجرد عنوان يبرّر التظاهرة.
ربما بإمكاننا اختزال هذه العلاقة الملتبسة في معنى الرؤية المتبادلة، بالالتفات إلى عمل فوتوغرافي تجهيزي، أنجزه ليونار دي سيلفا: صورة يوسف عبدلكي في ساحة متحف اللوفر في باريس، يتأمل أصالة العمارة القديمة، وقد أدار ظهره لنا، في ست لقطات بأحوال مختلفة. لن نلمح وجه عبدلكي، سنتعرف إليه من شعره الأبيض الذي ينتهي بربطة، وثياب سوداء. التشكيلي السوري الذي أقام ردحاً في باريس، يبدو مأخوذاً بعراقة الفن الباريسي وكنوز المتحف. إنّ المحترف السوري، في معظم نماذجه، توقّف على الأرجح عند مقترحات (حداثية؟) تجاوزها المحترف الباريسي منذ عقود. ولعل هذا المعرض المشترك، يضع الفنّ السوري أمام تحديات جديدة، وأسئلة تتجاوز ما هو اعتيادي ومكرّر ومستقر.


حتى 28 ت2 (نوفمبر) ـــــ قاعة «المتحف الوطني»، دمشق: 00963112219938