إنّه المثقّف الفرنسي الأكثر تأثيراً في العالم. عاش حياته بين الطواطم والأيقونات، باحثاً في الأطراف النائية عن المركز الأوروبي، عن جوهر الإنسانيّة في أساطير الشعوب. مسيرة فكريّة وعلميّة فريدة، تشكّلت ضد مطلقات الرجل الأبيض، رحل صاحبها قبل أيام، عن عالم لم يعد ينتمي إليه

أبو ظبي ـــ نوال العلي
ستخلو الشقَّة الباريسية على الضفَّة اليمنى للمدينة من شيخ الأنثروبولوجيين. كلُّ من دخلها أُخذ بتراكم الكتب والطواطم الإقيانوسيّة والتمائم الآسيويّة وأشرطة التعاويذ التيبتيّة. إنّها تذكارات كلود ليفي ــــ ستروس (1908 ـــ 2009) أكثر المسافرين كرهاً للأسفار. رحل الفيلسوف الأخير للقرن العشرين، الجمعة الماضي في باريس، ودفن ولم تُعلن وفاته رسمياً إلا مساء الثلاثاء. قال مرّةً: «إن كنت لا أزال على قيد الحياة، فإنَّما ذلك مصادفة».
منذ سنوات، لم يعد أبو البنيوية راغباً بالحديث عن مستقبل العالم الذي احتفى بمئويّته العام الماضي. عاش سنواته الأخيرة في عالم لا ينتمي إليه. «العالم الذي عرفته، الذي أحببته كان يضم 1,6 مليار نسمة. أما عالم اليوم فصار 6 مليارات نسمة. هذا العالم لم يعد عالمي. وعالم الغد الذي سيصير سكانه 9 مليارات، لا يمنحني أي إمكان للتنبؤ».
مع هذا، فالتصور الذي وضعه للمدن في كتابه «مدارات حزينة» (1955) سيظلُّ قابلاً للتطبيق على مدن المستقبل الجديد «إنها تنتقل من ريعان الصبا إلى الهرم من دون أن تمرّ بالأقدميّة، لقد بنيت لتتجدد بالسرعة ذاتها التي بنيت فيها، أي بصورة سيئة». كان ستروس يوجّه هذا الانتقاد إلى مدن مثل شيكاغو ونيويورك وساو باولو. في المقابل، كان صاحب Mythologiques يرى في طقوس القبائل التي زارها حكمةً وعفويةً وانسجاماً عقليّاً، عدّ التمرد عليها ضرباً من الجنون المطبق. ورأى أن هذه الميثولوجيات القبليّة هي الشروط الحقيقية لتجربتنا الإنسانية التي منحت قيمةً للمكان ووزناً للروائح والألوان والعواطف.
تكشف هذه المقابلة عن ميل ستروس إلى الوثوق بالعالم الطبيعي مصدراً للمعرفة، وعن مخالفته لكثير من علماء الأنثروبولوجيا الذين تماشت نزعاتهم مع الدراسات الاستعمارية. تلك الدراسات التي نظرت إلى الشعوب المستعمرة بوصفها ثقافات بدائية متخلِّفة عن ركب الحضارة الغربية وأقلَّ منها شأناً. وبإعادته الاعتبار إلى تلك الشعوب من خلال مؤلفاته المختلفة، يكون ستروس أوّل المتمرِّدين على الفكر الغربي الاستعماري، والمدافعين ـــــ عبر منهج علمي ـــــ عن «الاختلاف الثقافي». ونلاحظ في توجّهاته ميلاً إلى البوذيّة، وموقفاً سلبياً من الإسلام يظهر بوضوح في «مدارات حزينة».
في 1991، عاد إلى البرازيل مع طاقم تصوير فيلم وثائقي عن كتابه «مدارات حزينة» (صدر بالعربية عن «دار كنعان» بترجمة محمد صبح وتقديم فيصل دراج). وضع هذا العمل سنة 1955، أي بعد 15 عاماً من الأسفار الاستكشافية، إلى البرازيل والهند والبنغال. رحلات اختبر فيها ستروس ذاته بوصفه عالماً ورجلاً من الثقافة البيضاء وسط قبائل وحشيّة ذات طقوس خاصة.
بدأ كلُّ ذلك بعد دراسته الفلسفة (1931) في الـ«سوربون» وتلقِّيه دروساً في علم النفس لدى الفرنسي جورج دوما الذي عمل على تأسيس «جامعة ساو باولو». لدى اختيار بعثة فرنسية من الأساتذة للالتحاق بالجامعة، كان ستروس على متن باخرة حجّت إلى البرازيل عام 1934. حيث ترأس بعثة ميدانية إثنوغرافية في غابات الأمازون الماطرة. وهناك، مضى العالِم مع أصدقائه من السكَّان الأصليين «النامبيكوارا» و«الكودوفو» إلى قراهم وأدغالهم، راصداً كلّ شيء، حتى «التفاصيل التافهة والحوادث التي لا معنى لها».
حذّر من «التوسّع العشوائي للمجتمعات المهيمنة، وما يمثّله من تهديد جديّ للطبيعة وللإنسانيّة»
أسست هذه الرحلات إلى جانب دراساته المختلفة في الفلسفة وعلم الاجتماع والإثنوغرافيا، ولا سيّما أطروحته لنيل الدكتوراه «البنى الأساسيّة في القرابة» (1949)، هيكل نظريته البنيوية الموضوعة في كتاب «الأنثروبولوجيا البنيوية (1958)». رحلة طويلة تداخل فيها القدر الشخصي لليهودي الهارب من فرنسا بعد سقوط باريس في يد الجيش النازي إلى أميركا. وفي نيويورك، حطت رحاله ليلتقي بمعلمه رومان جاكوبسون واللغوي فرديناند دو سوسور، وهما الشخصيتان اللتان كان لهما أثر كبير في نظرية ستروس في الأنثروبولوجيا البنيوية. هذه البنيويّة التي وصفها فيصل دراج بأنّها «تنتمي إلى البنيوية ولا تنتمي إليها، لأنّ له اجتهاداً خاصاً يحدد معنى البنية والبناء والتحول»، فقد استلهم النموذج النظري من فرويد وماركس وتأثر بكانط وهوسرل ولايبنتز. وها هو صاحب «الطوطميّة الآن» (1962) يؤكد أنّه لا يشاطر فوكو منظوره المعرفي، ولا يقتنع بفرضيات لاكان، ولا ينظر إلى أعمال رولان بارت بإعجاب.
لكنّ الفيلسوف الذي ولد عام 1908 في بروكسل، بدأ رحلته الفكريّة مع أدبيات ماركس. خلال دراسته الثانويّة، اتجهت ميوله السياسيّة يساراً. بدأ يكتشف الفكر الماركسي، وأصبح التزامه يتضح، إلى أن انتُخب أميناً عاماً للطلاب الاشتراكيين. في تلك السنوات، كان برعاية جدّه، حاخام كنيس فرساي الذي تولّى تربيته بعد وفاة والده الرسام الذي أفلس بعد اختراع التصوير الفوتوغرافي. تابع دراسته في كلية الحقوق، ونال إجازة قبل أن ينتقل إلى «السوربون»، ثمّ شهادة في الفلسفة.
قد يكون إنجاز ستروس الضخم والأهم «أسطوريات» بأجزائه الأربعة، حتى وإن قال عنه مرة إنّه «لا يساوي العناء الكبير الذي بذله فيه». يضم الكتاب أربعة أعمال بدأها بكتابه «النيء والمطبوخ» (1969) و«من العسل إلى الرماد» (1973) ثم «أصل سلوكيات المائدة» (1978) وأخيراً «الرجل العاري» (1981). في هذه السلسلة، وضع ستروس أسساً بنيويّة لتحوّلات الميثولوجيا وآلياتها، بمعزل عن اللغات والشعوب والعصور، دارساً الأسطورة بوصفها بناءً مؤسساً لتفسير الثقافة وعلاقاتها الثنائية كعنوان كتابه الأول؛ فالنيء، متعلق بالطبيعة. أمّا المطبوخ، فمرتبط بالثقافة. كانت علاقته بهذه الأسطوريات مماثلة لعلاقته بالمتوحشين الغرباء القريبين منه، «كصورة في مرآة أستطيع لمسهم ولا أفهمهم». كأنه يقول إن الفكر المتحضر لا يختلف كثيراً عن الوحشي. وإنّ الأساطير والعادات تمثّل التحول من النّيء إلى المطبوخ.
بعد «النيء والمطبوخ»، بدأ يتكرّس في الأوساط الفكريّة. انتخب في 1973 عضواً في «الأكاديميّة الفرنسيّة». وكانت مجلّة «الأزمنة الحديثة» قد بدأت تتحدّث عن فكر ستروس، وتصوّر عالم الأنثروبولوجيا، بطلاً مغامراً، ومفكراً وفيلسوفاً. واليوم يعدّ الراحل أحد أكبر مفكري القرن العشرين، وقد بات مستحيلاً تناول أي مسألة تدور حول الإنسان والمجتمع والتفاعلات الحضاريّة، من دون الاستناد إلى إنجازاته الفكريّة، وأبحاثه العلميّة، والنظم والبنى المعرفيّة التي وضعها لفهم العلاقات بين الأساطير والحضارات والمجتمعات البشريّة.
لن يتلقى ستروس هدية في ذكرى ميلاده بعد أيام (28/ 11)، لكنَّ هدية «دار غاليمار» الباريسيّة له في مئويته العام الماضي، كانت جمع أعماله في مجلّد ضمن سلسلة «لا بليياد» الخاصة بكبار كل الأزمنة والعصور. إنّها هدية هذا العالم والمفكّر نفسه، الحياة التي أفنى عمره في تقديمها للعالم، مغيّراً الطريقة التي تدرك فيها بعض الشعوب بعضها الآخر. يغيب ستروس اليوم تاركاً صدى تحذيراته ترنّ كالوصيّة (خطابه في الذكرى الستين لتأسيس «الأونيسكو»، 2005)، من «التوسّع العشوائي للمجتمعات المهيمنة، وما يمثّله من تهديد جديّ للطبيعة وللإنسانيّة».


تقرّر مصيري المهني صباح يوم أحد، خريف 1934. عند التاسعة صباحاً، تلقيت اتصالاً هاتفياً. كان المتحدث سيليستان بوغلي، مدير «المدرسة العليا للمعلّمين» حينذاك. كان يكنّ لي منذ بضع سنوات، مودّة على درجة من البرود والحذر. يعود السبب في ذلك بداية إلى كوني لست من متخرّجي المدرسة العليا، ويعود أيضاً وخصوصاً إلى كوني لم أكن أنتمي إلى حظيرته (...). سألني فجأة: «هل ما زالت لديك الرغبة في دراسة الإثنوغرافيا»؟ أجبته: «بالتأكيد». فقال: «إذاً رشّح نفسك لمنصب أستاذ العلوم الاجتماعيّة في «جامعة ساو باولو». تعجّ الضواحي هناك بالهنود، ويمكنك أن تخصص لهم عطلات نهاية الأسبوع. لكن يجب عليك أن تعطي ردّك النهائي لجورج دوما، قبل ساعة الظهيرة...
كلود ليفي ــ ستروس/ «مدارات حزينة» (1955)