لماذا (وكيف) استُقبلت بعض الأفلام الإسرائيليّة في الغرب، مثل “عجمي” و“لبنان” و“تشهير”، بالحفاوة والإعجاب، فيما مرّ بعضها الآخر من دون أن يثير أيّ اهتمام؟
عدنية شبلي *
شهدت السنوات الأخيرة نوعاً من الاحتفاء بالسينما الإسرائيلية في أوروبا، تتوّج هذا العام بفوز الشريط الروائي “لبنان” لصموئيل ماعوز بجائزة “الأسد الذهبي” في “مهرجان البندقية السينمائي”، وأخيراً منح “مهرجان لندن السينمائي” جائزة Sutherland Trophy لفيلم “عجمي”، الذي يحمل توقيع المخرجين إسكندر قبطي ويارون شاني، كما فاز شريط “تشهير” ليوآف شمير بجائزة Grierson Award عن فئة أفضل فيلم وثائقي.
بصراحة، لم يرقني هذا الاحتفاء، ليس لأنّ هذه الأفلام إسرائيلية ـــــ على الأقل أتمنّى ذلك ـــــ بل لأنّه يُحتفى بها بناءً على قوميّتها، لا على فرادة شكلها ومضمونها. ومن الزاوية ننظر إلى الاحتفاء “بالسينما الفلسطينية”، أو بالسينما الكورية، كما حدث في بداية الألفية، وقبل ذلك بالسينما الإيرانية وهلمّ جرّا... بالتأكيد يمكن المرء أن يقتفي حساسية مشتركة بين هذه الأفلام، التي يجري تأطيرها بناءً على الانتماء القومي لصانعها، لكن يمكن المرء أيضاً، أن يجد أشكالاً لا نهائية من الحساسية في بعض تلك الأفلام، تتقاطع مع أخرى آتية من جهات أخرى في العالم. باختصار، هذا الاحتفاء الأخير بالأفلام الإسرائيلية يثير الحنق.
“عجمي” للسينمائيَّين إسكندر قبطي ويارون شاني (“الأخبار” ـــــ ٢٨/ ٩، و٢٦/ ١٠/ ٢٠٠٩)، شريط متقن وفق معايير المدرسة الهوليوودية. وهذا في الحقيقة حلم الكثير من السينمائيّين الإسرائيليّين: تقديم سينما هوليوودية، ذلك النموذج الذي رأى فيه أدورنو وهوركهايمر وآخرون نتاجاً بحتاً للثقافة الرأسمالية. هوليوود لم تتوقف يوماً عند تأمّل الوجود الإنساني وتعريته. كان همها الأول إنتاج الإنسان الملائم للنظام الرأسمالي ومبادئه، من الاستغلال حتى الاستهلاك. و“عجمي” يعيد تقديم ما أسّست له الكثير من الأفلام الإسرائيلية في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو أنّ هناك فلسطينيّين جيدين وفلسطينيين سيئين جداً، وهناك إسرائيليون جيّدون جداً، وإسرائيليون سيّئون. وهو ما يؤدّي بالتالي إلى إحالة مقتل أربعة فلسطينيين في الشريط على الفلسطينيين أنفسهم، بينما يحال مقتل الإسرائيليين الاثنين على الفلسطينيين. اعتماداً على هذه الرؤية، يمكن القول إنّ الفيلم يعيد إنتاج الإنسان الملائم لثقافة الاحتلال والاستغلال الإسرائيلية، وبراحة بال، وخصوصاً بعدما جرى سبر غور دوافع القاتل الإسرائيلي، وإحساسه بالذنب (القاتل الفلسطيني لا يملك هذا الإحساس).
أما “لبنان” (الأخبار ـــــ ١٤/ ٩/ ٢٠٠٩) فيتمحور حول هذا الإحساس تحديداً، الذي لعب عليه قبلاً فيلم آري فولمان “فالس مع بشير” (الأخبار ـــــ ٢١/ ٢، و١٩/ ٣/ ٢٠٠٩). “لبنان” صاموئيل ماعوز يتأمّل تفاصيل الألم الذي يشعر به القاتل حين يقدم على قتل شخص آخر (وهو إحساس يسخر منه فيلم مايكل هانيكي الأخير “الشريطة البيضاء” ببراعة). إلّا أن “لبنان” يفعل ذلك بطريقة خرقاء تماماً، إلى درجة يبدأ فيها المرء يشعر ببعض الشفقة على “مهرجان البندقية” والدرجة المتدنّية في الحكم على ما يمكن اعتباره عملاً سينمائياً جيداً.
اختلاف حاد في الرؤية بين الأفلام الروائية والأخرى الوثائقية
في الواقع، لا يظهر ذلك فقط في منح جائزة “الأسد الذهبي” للفيلم، بل أيضاً في منح جائزة “الأسد الفضي” لفيلم “نساء من دون رجال” لشيرين نشأت وهو يُشبه دعاية للشامبو. لكن ما يتجدّد مع “عجمي” أنّ الرؤية التي ذكرناها آنفاً، لا يقدّمها مخرج إسرائيلي “بالتعاون” مع بعض الممثّلين الفلسطينيّين، كما هي الحال في “لبنان” وأفلام إسرائيلية أخرى تتناول الصراع الإسرائيلي ــــ العربي، بل “بالاشتراك” مع مخرج فلسطيني هو إسكندر قبطي. أي يبدو أن بعض الفلسطينيين قد تبنّوا النظرة الإسرائيلية إليهم.
الفيلم الثالث “عيون مفتوحة” لحاييم تاباكمان هو في الواقع أكثر إثارةً للاهتمام من الفيلمَين السابقين. لا تكمن فرادة الشريط في لغته السينمائية التي تبدو تقليدية إلى أبعد الحدود ـــــ كما هي حال غالبية الأفلام الإسرائيلية ـــــ من حيث أسلوب التصوير والإخراج. فرادته تكمن في قصّته التي تقارب سؤال الرغبة قبالة القوانين التي تتحكم فيها. والقوانين في هذه الحالة هي القوانين الدينية والاجتماعية، وازدواجية المعايير التي يتّبعها المرء حين يتعلق الأمر به من جهة، وبالآخرين من جهة أخرى.
يطرح “عيون مفتوحة” هذه الأسئلة وصعوبة التعامل معها، برويّة وبتأنٍّ، من خلال قصة أرون، الرجل المتديّن الذي يعيش مع عائلته بسعادة وبسلام... إلى أن يظهر في حياته عزري، الشاب المتدين المثلي. الطريقة التي يصور بها الفيلم، من دون الكثير من الدراما، حالة الحيرة والتمزق التي تعيشها الشخصيات، تجعل الأسئلة التي يطرحها تتجاوز خاصيّة القصة إلى قصة الإنسان عموماً، وهو ما تفعله عادةً الأفلام الجيدة فقط. لكن الفيلم، كما يبدو، يخرج عن الموضوع الذي شُغلت به السينما الإسرائيلية منذ السبعينيات، وتحديداً بعد حرب 1967.
ولذلك، فهو لم يحظَ بالكثير من الاهتمام، ولم ينل أي جائزة حتى الآن.
الفيلم الرابع والأخير هو وثائقي بعنوان “تشهير”، يتناول قصة مختلفة تماماً. ينطلق Defamation من رحلة بحث عن إجابة عن سؤال يطرحه المخرج يوآف شمير في بداية الفيلم وهو “ما معنى اللاساميّة؟”. خلال الرحلة، يضيء الشريط على أمر لم يسبق أن كشفه أي شريط، أكان إسرائيلياً أم غير إسرائيلي: كيف يبني الإسرائيليون ـــــ عن سبق إصرار وترصّد ـــــ خوفهم من الآخر، من خلال تبنّي فكرة العداء للسامية؟ “تشهير” يتأمل هذا الخوف، ويتساءل عن جدواه ـــــ عدا تدمير الذات ـــــ بجرأة لا يمكن إلّا لفن صادق أن يمتلكها. ويبدو أن فكرة العمل جاءت بعد اتهام المخرج نفسه بمعاداة الساميّة، بعد عرض شريطه الوثائقي السابق “حواجز” (2003).
ولا يمكن رؤية تميّز “تشهير” بمعزل عن تميّز أفلام وثائقية أخرى قدّمها العديد من السينمائيّين الإسرائيليين في العقود الأخيرة. في هذه الأعمال، يختار المخرجون أن يفتحوا أعينهم، ويروا ما يحيط بهم بل ما يسهمون فيه إسهاماً فعّالاً. وهو سرعان ما يؤدي إلى مواجهة أسئلة قاسية تعرّي السوء، أو كما تقول حنا أرندت، عادية السوء وصناعته.
إذاً يمكن القول إن هنالك اختلافاً حاداً، بين الرؤية التي يتبناها الكثير من المخرجين الإسرائيليين في الأفلام الروائية من جهة، والأفلام الوثائقية من جهة أخرى. بل يمكن اقتفاء هذا الاختلاف في المسيرة الفردية لبعض هؤلاء أحياناً، كما هي الحال مع عاموس جيتاي: قد يقع المرء على لحظات عالية من الحساسية السينمائية في الأفلام الوثائقية لجيتاي، لكنّها تختفي تماماً من أفلامه الروائية. لكن هذا أمر يفضّل مَن يحتفي بالأفلام الإسرائيلية ككل، أن يغضّ النظر عنه، لأنّه يفضل الاحتفاء بقومية صنّاع السينما لا بالسينما نفسها.
* كاتبة فلسطينيّة