القاهرة ـــ محمد خيريحين وقت الراحة، فيغادر الطهاة قصور العائلة المالكة، ويلتقون في مقهى صغير. لكنّ العمل يفرض عليهم أن يكونوا دائماً تحت الطلب، فيطلبون من صاحب المقهى تركيب خط هاتف، هكذا يصبح «مقهى الطهاة» في باب اللوق في وسط القاهرة، أول مقهى شعبي مصري يدخله التلفون، في أحد أيام 1936.
الحكاية الصغيرة واحدة من منمنمات كتاب «مقتنيات وسط البلد» (دار الشروق ــــ القاهرة). هنا، يقدم الروائي مكاوي سعيد حكاياته عن «الأماكن التي اندثرت والتي في طريقها إلى الاندثار». هي ليست ذاكرة أرشيفية، لأنها شخصية رغم دقتها. نجدها غنية بمعرفة المؤلف بوسط البلد، حيث أمضى معظم حياته. هذا المكان، احتلّ حيزاً مهماً من «تغريدة البجعة» (2007)، روايته التي تنافست ضمن القائمة القصيرة لـ«بوكر» العربية في دورتها الأولى.
ينقسم العمل إلى جزءين. الأول محجوز لـ«ناس وسط البلد»، أولئك الذين نشر المؤلف بعض الحلقات عنهم سابقاً في جريدة «البديل». في كتابه الجديد، يتوسع في السرد ليصل إلى 42 شخصية تحتل ثلثي الكتاب. أمّا الثلث الأخير فتحتلّه الأماكن: الفنادق،
تحوّل الفندق العتيق إلى «طلعت حرب مول»
البارات، المقاهي، ماضيها وما آلت إليه، الغريب منها والطريف. «مقهى الكلاب» مثلاً في «شارع رمسيس»، حمل اسمه نظراً إلى كون معظم رواده من العاملين في تسميم الكلاب الضالة. أمّا «مقهى أسترا» الذي لم يعد موجوداً، فكان يقدم في السبعينيات عرضاً مسرحياً للجمهور كل خميس، يتناوب عليه الفنانان محمد نوح وعبد الرحمن عرنوس. أما «مقهى الحرية»، فهو المقهى الشعبي الوحيد الذي ما زال يقدم المشروبات الروحية، وهو مشيّد فوق أطلال بيت أحمد عرابي، زعيم الثورة العرابية ضد الخديوي والإنكليز.
يكتب مكاوي سعيد عن كافيتريات المثقفين الشهيرة في «وسط البلد» مثل «الجريون» و«ستوريل» و«النادي اليوناني»... لكنَّه يحكي أيضاً عن تلك التي اندثرت لأسباب متنوعة ودالة. يحكي عن «مولان روج» ويصفه بـ«المرقص الجميل» الذي يحتل مكانه الآن مكتب «الخطوط الجوية الكويتية». أمّا «فندق ناسيونال»، فقد اشتراه «الريّان» صاحب قضية توظيف الأموال الشهيرة في الثمانينيات (قضيّة تم فيها استغلال الدين لإقناع الناس بسحب أموالهم من البنوك لاستثمارها «على نحو شرعي»). طارت الودائع بعدما تحوّل الفندق العتيق إلى كاراج سيارات، ثمّ إلى المبنى التجاري الشاهق «طلعت حرب مول».
هكذا اندثر الكثير من معالم وسط البلد، يؤكد مكاوي ثم لا يلبث أن يتذكر مطعم «أرتين». ذلك المطعم الأرمني الذي «كان يقدم أفضل أكل بيتي في وسط المدينة»، كان يستخدم في لافتته رسماً لصاحبه يجلس فيه على مقعدين متلاصقين، للتعبير عن التخمة التي تسبّبها لذة الطعام الذي يقدّمه!