أخذ «البيت الدولي للآداب» على عاتقه منح جائزته لأدباء رحلوا وقد أخطأتهم «الأكاديمية السويدية». بعد بورخيس وكافكا، جاء دور أب الأدب الفلمنكي، الذي رحل في الربيع الماضي
بروكسل ــ طه عدنان
لا تبدو بلجيكا، هذه المملكة الصغيرة، مهتمّة كثيراً بما يجري في فلك «نوبل» وكواليسها. فشهرة الجائزة الدولية، لم تُثنِ «البيت الدولي للآداب» في بروكسل أو الـPassa Porta، عن منح «جائزة نوبل بلجيكية» لأدباء العالم الكبار، الذين رحلوا وقد أخطأتهم «الأكاديمية السويدية». وجرياً على عادته كلّ عام، أعلن البيت الفائز لعام 2009: بعد بورخيس (2007) وكافكا (2008)، جاء دور أديب بلجيكا الأشهر هوغو كلاوس.
هذا الشاعر والروائي والمسرحي والسينمائي الذي يعدّ مجدِّد اللغة الهولنديّة/ الفلمنكيّة، وباعث حداثتها، فاز بالعديد من الجوائز الدولية المرموقة. رشِّح أكثر من مرة لنيل «جائزة نوبل للآداب»، من دون أن «تحظى به» هذه الأخيرة.
اختار صاحب «حزن البلجيكيّين» الرحيل في 19 آذار (مارس) العام الماضي، وبقي أحد أكبر أدباء عصره. اختار «الموت الرحيم» خلاصاً من مرض الألزهايمر الذي لاحقه طوال سنواته العشر الأخيرة. كأنَّ الشاعر استسلم لموت كثيراً ما سخر منه، هو الذي كان يفضّل الغناء على الانتحار. بالفعل، تفوّق الغناء على الموت، فجمع المئات في لحظة اعتراف تكريميّة بأحد آباء الأدب الناطق بالهولندية.
ولد هوغو كلاوس في الخامس من نيسان (أبريل) عام 1929 في مدينة بروج (الواقعة في الإقليم الفلمنكيّ من بلجيكا). والده الذي كان يعمل مطبعياً، كان دائم الترحال، لا يستقر في مكان. وضعته أمه، وهو لم يُكمل بعدُ ربيعه الثاني، في دير كاثوليكي غادره في سن الحادية عشرة مثقلاً بالأحقاد على الكنيسة. في الرابعة عشرة من عمره، قفز من سور المدرسة الداخلية ليُطلِق ساقيه إلى الحياة. زاول مهناً عدة من بينها الصباغة في وُرش البناء. وعندما بلغ السابعة عشرة، اختار الالتحاق بكلية الفنون الجميلة. هكذا بدأ يتلمّس طريقه نحو الرسم والكتابة.

نادى بالخروج على المؤسسات التي تكبح التطوّر
تعرّف إلى الحركة السريالية في باريس عام 1948، فلم يرَ فيها مجرَّد حركة فنية بل طريقة عيش وحياة. صارت السريالية لديه مشوبةً بنزعة فوضوية واضحة. نادى بتطوّر الإنسان بعيداً عن كلِّ المؤسسات التي تكبح هذا التطوّر من مدرسة وأسرة وكنيسة ودولة، لا بل وضدّها أيضاً. التحق بحركة «كوبرا» (1948 ــــ 1951) التي أسّسها في باريس فنانون تجريبيون من كوبنهاغن وأمستردام وبروكسل ضدّ العقلانية الغربية. وبعد إقامة في إيطاليا، انفتح على السينما كفن وصناعة، قبل أن يعود إلى بلجيكا.
هناك، أبدع صاحب «صيد البطّ» (1950) رائعته الشعرية «قصائد أوستاكر» عام 1955، معلناً فيها الرؤية الفنية لكاتب شامل. مكانةٌ عزّزتها روايته «الذهول» (1962) ليواصل بعدها الكتابة في الشعر والرواية مثرياً خزانة الأدب العالمي بالكثير من العناوين المهمة. لكنَّ العلامة الفارقة التي ارتقت بكلاوس إلى مصافّ أدباء العالم الكبار، كانت ـــــ وبلا منازع ـــــ رائعته الشهيرة «حزن البلجيكيّين» (1983). روايةٌ لاقت نجاحاً باهراً في مكتبات العالم. هذا في وقت صرّح كلاوس فيه بأنّه كتبها فقط ليعرف ابناه كيف عاش والدهما مطموراً وسط حضارة غريبة.
لم يكتفِ كلاوس بالشعر والرواية لمواجهة هذه الحضارة. بل قدَّم إلى خزانة المسرح العالمي العديد من الأعمال المسرحية اللافتة: «أغنية القاتل» (1957)، و«سكّر» (1958)، و«الجمعة، يوم حرّية» (1969) حوّلها إلى فيلم سينمائي عام 1980. ولأنّ كلاوس لم يعرف في الفن حدوداً، فقد كتب السيناريو ومارس الإخراج مُهدياً جمهور الشاشة الكبرى، إضافةً إلى فيلم «الجمعة»، أعمالاً أخرى «الأعداء» (1967)، و«سر» (1989) و«الخلاص» (2001).
ومع ذلك، بقي كلاوس يميل إلى عشقه الأول، وظلَّ مصراً على تقديم نفسه كرسّام يُحِبّ أن يُقال عنه إنّه ألّف كتباً جيّدة.