كل يوم، تسجّل مراصد حرية الصحافة في العالم انتهاكاً أو أكثر لحقوق الإعلاميين في تونس. هذه المضايقات اتخذت منعطفاً خطيراً مع الحملة الانتخابية الأخيرة
ليال حداد
تصل الأخبار من تونس كأنّها قصص خيالية: ملاحقات بوليسية، اعتقال تعسّفي، اعتداءات جسدية وكلامية، ومحاصرة صحف ومواقع إلكترونية. لا شيء هناك يُشبه ما روّج له زين العابدين بن علي، خلال حملته الانتخابية الأخيرة. في وقت كان الرئيس التونسي يَعِد الإعلاميين بتوسيع هامش الحريات الإعلامية، كانت أجهزته تلاحق كلّّ من تسوّل له نفسه انتقاد النظام. طبعاً، لم تفاجئ الممارسات أحداً، وخصوصاً الإعلاميين المستقلين والمعارضين الذين اعتادوا منذ التسيعينات، بعد عامين من استلام بن علي زمام السلطة، على «ديموقراطية» بن علي التي حوّلت ممارسة مهنتهم إلى مواجهات يوميّة بهدف الحفاظ على الحدّ الأدنى من حرية التعبير.
وبعد هامش مقبول من الحريات الإعلامية التي استمرّت حتى 1990، دبّت فوبيا «الانقلاب» في بن علي، فراح يحاصر الإعلام، تفادياً لتفشّي أفكار الصحافيين «الموبوءة» عن الحرية في أوساط الرأي العام.
غير أنّ المفاجأة الأخيرة التي بدأت مع انطلاق الحملة الانتخابية «بلغت قمة القمع. وقد اتخذ التضييق منعطفاً خطراً صار يهدّد الصحافيين في سلامتهم الجسدية» يقول مراسل قناة «الجزيرة» في تونس، الصحافي المستقلّ لطفي حجي لـ«الأخبار».
ولعلّ أبرز دليل على حجم المأساة التي عاشها الصحافيون أخيراً، هو عدد التقارير الدولية التي انتقدت ما يجري في تونس، بينها تقرير «مراسلون بلا حدود»، والبيانات المتتالية لـ«هيئة حماية الصحافيين».
تطول لائحة الصحافيين الذين تعرّضوا للمضايقات، لتشمل أسماءً مثّلت لفترة طويلة مصدر إزعاج للنظام. ومن بين هؤلاء زهير مخلوف الذي مضى على اعتقاله أكثر من ثلاثة أسابيع، وذلك بعدما نشر على موقع «السبيل» تحقيقاً أضاء على التلوّث الموجود في منطقة نابل الصناعية. لكن كما جرت العادة، لا يوجّه القضاء تهمة مباشرة للصحافي كي لا تُتَّهم الحكومة بقمع الحريات، بل يجد رجال النظام طريقهم إلى اقتياد الصحافي إلى المحكمة بتهم أقل ما يقال عنها إنها مضحكة. مثلاً في حالة مخلوف، تَقدّم أحد الرجال الذين ظهروا في التحقيق الصحافي ليقول إنّ مخلوف صوّره من دون إذن!
وبالاعتماد على الأسلوب نفسه، اعتقلت السلطة الصحافي الشهير توفيق بن بريك بتهمة الاعتداء على امرأة في الشارع، هنا أيضاً، لم تكن التهمة سوى لإخفاء استياء النظام من المواضيع التي نشرها بن بريك قبل الانتخابات في مجلة «لو نوفيل أوبسيرفاتور» الفرنسية حيث رفع سقف تحدّي السلطة من خلال مقابلة معارضين للنظام.
لكنّ «فبركة» التهمة أمر غير ضروري في كثير من الأحيان، فالسلطة لا تجد نفسها مضطرة لتبرير أي اعتقال أو اعتداء. وما تعرّض له الناشط والصحافي سليم بوخذير دليل على ذلك. بعد مداخلته على BBC وتطرّقه إلى كتاب عن حياة ليلى زوجة بن علي، اختُطف هذا الصحافي وضُرب ثمّ جُرِّد من ملابسه وتُرك في إحدى الحدائق العامة! وبين الاعتداء والاعتقال، غالباً ما تجد السلطة وسائل أخرى لترهيب الإعلامي. مثلاً، تعرّض لطفي حجي لدى عودته إلى تونس، إلى عملية تفتيش مهينة في المطار ثمّ طارده أحد الأشخاص وبدأ يشتمه بطريقة سوقية.
تكثر الحالات وتطول اللائحة، ويندر أن يمرّ يومٌ واحد دون أن تسجّل مراصد حرية الصحافة حول العالم انتهاكاً واحداً على الأقل في تونس. هذا التضييق يدعمه حصار آخر للصحافيين المستقلين،

السلطة تعرقل توزيع الصحف المستقلّة والمعارضة
تقوده مجموعة صحف رسمية وخاصة تعمل تحت جناحَي بن علي. «صعّدت أخيراً هذه الصحف هجومها على الصحافيين المستقلين والنشطاء الحقوقيين بطريقة غير أخلاقية ومنافية للقانون. ولكن لا أحد يحاسبها على هذا القدح والذم» يقول لطفي حجي.
وإن كان قمع الحريات صفة تتشارك فيها أغلبية الأنظمة العربية، فإنّ لتونس ما يميّزها: إضافة إلى ما سبق، تسيطر السلطة على الصحف عبر الضغط على أصحاب الجرائد الخاصة، بطرد كل إعلامي ينتقد الحكم. أما القوانين والأعراف المنظِّمة لعمل الإعلام فتلعب أيضاً دوراً في إضعاف الصحف.
ولعلّ أبرز ثلاث نقاط في هذا المجال هي امتياز دعم الورق الذي تحجبه السلطة عمن يزعجها، ما يزيد الأعباء المادية، وخصوصاً أن كلفة الورق مرتفعة في تونس. كما أنّ عملية توزيع الصحف المحصورة بشركة واحدة، تخضع لمزاجية النظام. هكذا تتعرّض الصحف المستقلة والمعارضة إلى محاصرة توزيعها في عملية يطلق عليها اسم «الحجب المقنّع». إذ يعطي مندوب التوزيع مثلاً عدداً واحداً من هذه الصحف إلى البائع، أو يطلب منه إخفاء هذه الصحف وعدم إظهارها للقارئ. أما المشكلة الثالثة فهي امتناع النظام عن مدّ الصحف التي تغرّد خارج سربها، بالإعلانات العمومية التي تمثّل مصدر دخل أساسياً لها.