«الموهوبة اللهلوبة» تحيّة كاريوكا ضحّت بالعائلة من أجل الفنّ. صلاح عبد الصبور وعبد الحليم حافظ جمعتهما الصعلكة القاهرية، وحبّ «السنيورة» سعاد حسني. مواقف ممتعة ودالّة ومؤثّرة عن شخصيات مهمّة في تاريخ مصر، تجتمع في كتاب «سيرة الحبايب» (دار الشروق)
محمد خير
«كان لا بد من عقابه. كنّا نقدّم إحدى المسرحيات على «مسرح رمسيس»، وتطلّب المشهد أن يقبّل البطل يوسف وهبي البطلة التي هي أنا قبلةً طويلة، فرأى يوسف وهبي أن يصوّرها سينمائياً كي يعرضها بين الفصول كنوع من الدعاية. وعندما فوجئتُ بعدها بالصحافي ينتظرني خارج المسرح ليطلب مني بمنتهى الوقاحة أن أمنحه قبلة مماثلة شتمته، فما كان منه إلا أن صاغ مقالاً مطوّلاً يهاجمني فيه. وفي اليوم التالي شاهدته يدخل المسرح، فهجمت عليه وفين يوجعك لأخلص حقي منه». الراوية هنا هي فاطمة رشدي، نجمة الفن المصري في النصف الأول من القرن العشرين («سارة برنار الشرق» التي صالت وجالت وأفلست قبل رحيلها). لكن القصة نفسها ـــــ ومئات القصص الممتعة الأخرى ـــــ ينقلها كتاب سناء البيسي «سيرة الحبايب ـــــ 55 شخصيّة من قلب مصر» (الشروق ـــــ القاهرة ). حكاية فاطمة تحتلّ الترتيب الـ53 في الكتاب، رغم أنّ المؤلفة لم ترقّم الحكايات، تركتها تنساب بعفوية كما تنساب كتابتها نفسها. تعترف بنفسها في المقدّمة بأن الكتاب «ليس تأريخاً، بل تحليق مع باقة جمعتها من ثمار شجرة الإنسانية لأتذوّقها على مهل». ربما لهذا لا تهتمّ المؤلفة ـــــ التي أسست مجلة «نصف الدنيا» في التسعينيات ـــــ بأن تقدِّم ببليوغرافيا للشخصيات التي تتناولها، بقدر ما تقدّم عنها حكايات جذّابة ودالّة ومؤثرة. معها نرى كيف أن فاطمة رشدي، بطلة الفيلم الرائد «العزيمة» (1939)، لم تكن مرتاحة مع ذلك الفن الحديث «السينما». كانت ناقمة على المخرجين، نقرأ «منذ أن اشتغلت بالسينما وبالأجرة وتحت رحمة من يسمّون أنفسهم مخرجين، وأنا لم أستطع أن أتمالك أعصابي، وفي حالة قلق وقرف دائم، وهذا لعلمي أنهم لا يعرفون ما هو التمثيل، ويحبون أن يُظهروا أنفسهم كأنهم يفهمون أحسن من الممثلة العالمة بفنّها وأصوله»!
لكن محمود شكوكو «السندباد البلدي» له شأن آخر. لم يكن يتحكّم فيه أحد. الفنان الشعبي العبقري كان نجم المسرح والسينما في الأربعينيات، أبدع في المونولوج (400 مونولوج) وأسس «مسرح العرائس»، وسبق أيّ فنان آخر في غناء الفرانكو آراب (حبيبي شغل كايرو/ مفيش في القلب غايرو). بالطاقيّة والعصا وصحبة الورد، حقّق هالته بالموسيقى والغناء والرقص والأراجوز. لم توفّر سخريته أحداً. مزج لغة المثقفين بسخريات الحارة (زهقت من لعلّ/ وطهقت من عسى/ ودموعي تملى حلّة/ من الصبح للمسا). النجم الذي نشأ نجّاراً، علّم نفسه القراءة والكتابة، وإن ظلت موهبته أعظم من ثقافته. أحبّه الناس وسجّل له التاريخ أنّه الفنان المصري الوحيد الذي بيعت تماثيل على صورته في الأسواق الشعبية. وكان التمثال يباع مقابل «زججة»، أيام كان الزجاج عزيزاً في مصر عقب الحرب العالمية الثانية. رحل عن الدنيا مديوناً ـــــ كعادة معظم الرواد ـــــ هو الذي بلغت ثروته يوماً أن اشترى سيارة لم يكن مثلها سوى لدى الملك فاروق. عاد بالسيارة من جولة فنية في إنكلترا، فاحتجزتها سلطات الجمرك، لأن لونها ملكي أحمر «فاروقي». ولم يفرج عن السيارة سوى بوساطة النحّاس الباشا، الزعيم التاريخي لحزب «الوفد».

محمود شكوكو مزج لغة المثقفين بسخريات الحارة

تكشف سناء البيسي عن المشترك المجهول بين الشاعر صلاح عبد الصبور، والفنان عبد الحليم حافظ. نكتشف أن الاثنين اللذين كانا من محافظة الشرقية «لم يلتقيا في مسقط الرأس، لكنهما تلاقيا هنا مع الصعلكة القاهرية، في سكّة الفن والإعجاب بالسنيورة سعاد (حسني)». وحالما يتباطأ الشاعر مرسي جميل عزيز في كتابة أغنية لعبد الحليم في بداية «مشواره»، حتى يلجأ المغنّي لعبد الصبور، فيكتب الأخير الأغنية الوحيدة في حياته من ألحان كمال الطويل «بعد عامين التقينا ها هنا»، لكن الأغنية اليتيمة التي كتبها صاحب «مأساة الحلاج» ظلت دائماً من أغنيات الظل. ربما لأنها كانت في بدايات البدايات، ولم تكن الإذاعة تبثّها إلا في الأوقات الميتة، وخصوصاً أنّ مغنيها كان لا يزال عبد الحليم شبانة، الذي لم يكن قد أصبح بعد عبد الحليم حافظ.
تلهث صفحات الكتاب وهي تحكي قصة هروب بدوية محمد علي النيداني كريم، الشهيرة باسم تحية كاريوكا، الراقصة الأشهر التي كتب عنها إدوارد سعيد. الفتاة التي عرف شقيقها أنها رقصت في عرس وأذهلت الجميع، سجنها وحلق شعر رأسها. وما إن غطى الشعر رأسها مجدّداً حتى هربت في الفجر. ركبت القطار من دون نقود، فجمع لها الركاب ثمن التذكرة، ووصلت «الموهوبة اللهلوبة» إلى محطة مصر. أمّا نداءات الجمهور «كاريوكا» فمنحتها لقبها خلال عملها في كازينو بديعة مصابني: تدريبها على أيدي مدرب الرقص إيزاك، زواجها بـ13 رجلاً منهم الليفتانت الأميركي جلبرت ليفي، دخولها السجن معتقلة سياسية، العملية الجراحية التي كادت تشوّه بطنها فتحرمها الرقص، تعاقدها في هوليوود ثم سرّ عودتها من هناك بعد بروفة واحدة، وقولها بعد سنوات من قيام الثورة «ذهب فاروق واحد، والآن نعيش عصر الفواريق»!
الكتاب ضخم (570 صفحة) لا يقتصر على أهل الفن والأدب، بل يشمل زعماء تاريخيين (أحمد عرابي وسعد زغلول) ورؤساء (السادات ومحمد نجيب) وفلاسفة ومفكّرين وعلماء (خالد محمد خالد، جلال أمين وجمال حمدان) وصحافيّين (مصطفى أمين والتابعي) وأئمة ودعاة ورجال دين (الباقوري والغزالي وشلتوت).