ليس هذا الجنس الأدبي مستجدّاً على المدوّنة الأدبية العربيّة: لقد بدأ مع ابن خلدون والغزالي، وتشكّل تبعاً لمتغيّرات الواقع. هذا ما يخلص إليه محمد كامل الخطيب، في كتابه الصادر حديثاً في دمشق
خليل صويلح
ينفي محمد كامل الخطيب في «أعشاب الماضي: دراسة في السيرة الأدبية» (دار 21 ـــــ دمشق) أنّ تكون السيرة الذاتية طارئة على الكتابة العربية. في التراث العربي، في رأيه، محاولات مبكرة في خوض هذه التجربة، إذ يجد في سيرة ابن خلدون «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً»، و«المنقذ من الضلال» للإمام الغزالي، و«الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون» عتبات أساسية أسهمت في تراكم ما هو ذاتيّ في المدوّنة الأدبية العربية. ويستدرك بأنّ هذه السِّيَر نأت عمّا هو شخصي، والتفتت إلى وصف الأحوال العامة بسبب تعذّر تعرية الذات والاعترافات في مجتمع تتحكم فيه ثقافة «إذا ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا».
ويشير الناقد السوري إلى أنّ بواكير وعي الذات في الإبداع العربي الحديث، نجدها لدى جبران في «الأجنحة المتكسّرة» (1911). وكان صاحب «النبي» أول من استعمل ضمير المتكلم في نبرة تمرّدية على قيم لغوية وفكرية سائدة «لكم لغتكم ولي لغتي». لا شك في أنّ السيرة الذاتية مرآة صاحبها، لكننا سنقع ـــــ عربياً ـــــ على صورة مغبّشة غالباً. المحاولات الأولى في مجال السيرة، ظلّت عند حدود المعلن، ولم تتوغّل في هتك الأسرار الشخصية في حياة صاحبها. هكذا اكتفى طه حسين في «الأيام» (1926) باسترجاع طفولة بعيدة كنوع من الاحتماء بالرحم الأول، إثر أزمة كتابه «في الشعر الجاهلي» وصدامه مع الأزهر. كذلك فعلت لطيفة الزيات في «أوراق شخصية» (1992) التي كتبتها خلال احتضار شقيقها «أدفع الموت عني فيما يبدو أنه سيرة ذاتية لا يُكتب لها الاكتمال». لن نجد إذاً سيرة ذاتية عربية مكتملة، على غرار «اعترافات» روسو أو «المثقفون» لسيمون دو بوفوار. بقيت السيرة العربية، حسب المؤلّف، تراوح بين ضمير المتكلم، وضمير الغائب. كتب رشاد رشدي «رحلتي مع الحياة» (1990)، وعبد الكبير الخطيبي «الذاكرة الموشومة» (1984)، وحنا مينة «المستنقع» (1977)، وسمير أمين «سيرة ذاتية فكرية» (1993)، وعبد الرحمن بدوي «سيرة حياتي» (2000). وهناك من أنجز سيرته في حوارات مطوّلة، كما فعل صادق جلال العظم في «حوار بلا ضفاف»، وأدونيس في «الطفولة والشعر والمنفى». فيما مزج آخرون السيرة الذاتية بالسيرة الأدبية. هذا ما نجده في «البئر الأولى»، و«شارع الأميرات» لجبرا إبراهيم جبرا. في مقلب آخر، يتوقّف محمد كامل الخطيب عند سير تتماهى مع التاريخ السياسي لأصحابها. وإذا بالذات مجرد شاهد على مرحلة، أو تصفية حساب مع حقبة. في «أوراق العمر» (1990)، يمزج لويس عوض بين التاريخ الشخصي وتاريخ مصر، فيما يرصد فواز طرابلسي في «صورة الفتى بالأحمر» صعود وإخفاق جيل الثورة والمد القومي.

جبران أول من استعمل ضمير المتكلم بنبرة تمرّدية

أما هشام شرابي في «الجمر والرماد»، فيتضاءل الفرد لديه أمام سطوة الزعيم (أنطون سعادة) وبريقه، ويعلن خالد محيي الدين في «والآن أتكلم» موقفه من الحقبة الناصرية. ويرسم بشير العظمة في «جيل الهزيمة» صورة واقعية لدمشق في النصف الأول من القرن العشرين، نافياً عنها الصورة الفولكلورية «نارنج وياسمين ومياه نقية في بردى». أمّا حسان عباس في «غربة الراعي»، فيخلص إلى أنه كان «يقف فوق مزبلة كأنها رابية». وتصل النرجسية إلى حدودها القصوى في سيرة عباس محمود العقاد، حين يعنون سيرته بـ «أنا» (1964).
لعلّ ما هو مهم أنّ السيرة الذاتية العربية، باتت اليوم جنساً أدبياً راسخاً، يتجسّد في الرواية السيرية التي دشّنها جبران خليل جبران أوّلاً، لتنفتح على عشرات النصوص الأخرى. ألم يقل نجيب محفوظ «أنا هو كمال عبد الجواد» أحد أبطال ثلاثيّته الشهيرة. وربما كان المنعطف الحاسم في هذا الجنس الأدبي يتمثّل في النص المتفرّد، الذي كتبه محمد شكري في «الخبز الحافي» (1982). لغة خشنة وشوارعية وعارية لا تأبه بالمحرّمات، فتحت الباب على مصراعيه أمام نصوص أخرى، كانت قبلة مخاتلة، ليس في الأدب فحسب، بل في السينما، كما في رباعية يوسف شاهين، التي افتتحها بـ«اسكندرية ليه»، وفريد بوغدير في «عصفور السطح»، ومحمد ملص في «أحلام المدينة»، وأسامة فوزي في «بحب السيما».
ولا يمكننا تجاهل «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، أو «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، أو «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وحتى «الزيني بركات» لجمال الغيطاني. وإذا بخيوط السيرة الذاتية تشتبك مع سيرة الجماعة في تحوّلاتها وتبدّلاتها الفكرية والسياسية، لتسجّل موقفاً نقدياً من محيطها، ليس بوصفها مكاشفة فردية، بل شهادة علنية على زمن مفتّت.