المقابر الجماعيّة، والحدائق المعلّقة، وتدرجات الأسودزياد عبد الله
ما من مسافة بين العراق وأميركا. غزت أميركا بلاد الرافدين فطفت المقابر الجماعية، وراح «ابن بابل» ينبشها بحثاً عن والده. في ذلك الوقت، كانت طرود عاجلة تُرسل يومياً من العراق إلى أميركا... طرود هي عبارة عن توابيت يرافقها «الرسول» الذي يبلّغ العائلات بمن داخلها.
فيلمان، الأول عراقي والثاني أميركي: الأول يمضي خلف قصة تدور بعد سقوط بغداد مباشرة من دون أن يكون للجنود الأميركيين أي حضور، بينما يركز الثاني على عائلات الجنود. وإن كان السينمائي العراقي محمد الدراجي قد قدّم في «أحلام» أحداثاً تغطي مرحلة زمنية سابقة للغزو الأميركي وصولاً إلى سقوط بغداد، فإنه في جديده «ابن بابل» يبدأ من لحظة السقوط: إنّه شريط يُشبه Road Movie يمضي من مدينة إلى مدينة من دون انعطافات درامية تطرأ على رحلة امرأة كردية وحفيدها في بحثها عن ابنها المعتقل في سجون النظام السابق، على أمل ملاقاته حيّاً بعد 12 سنة خلف القبضانرغم أنّ مسرح الأحداث يدور بعد سقوط بغداد مباشرة، فإن الجيش الأميركي غاب كلياً عن المشهد. هكذا، تمضي رحلة أحمد الصغير (ياسر طالب) وجدّته من شمال العراق إلى بغداد، ثم الناصرية حيث السجن الذي يقبع فيه والده. الجدة لا تعرف سوى الكردية، بينما الولد يتكلم الكردية والعربية. يُوظّف كل ذلك في جرعات عاطفية تجعل من المشاهد على تفاعل مع ما يراه، من افتراق الولد عن جدته عند ركوب الباص ولحاقها به، إلى إصرار الجدة على تغيير ملابس حفيدها في الناصرية، ليلاقي والده بثياب جديدة. لكنّ وصولهما إلى السجن لن يقودهما إلى معرفة مصير الأب الغائب... لذا يمضي الاثنان في أرجاء العراق بحثاً عن المقابر الجماعية، يرافقهما شابٌّ كان من قوات الحرس الجمهوري التي شاركت في «حملة الأنفال». ترفضه الجدة في البداية، لكنّ إصراره على مساعدتهما سيمنحه غفران الجدة الكردية.
يمكن تقسيم الشريط حسب تدرجات اللون الأسود، بمعنى أنّه أسود بالكامل، لكنه عرضة لزيادة السواد كلما توالت المشاهد التي تكوّن البنية الحدثية للفيلم، مع تأكيد التجاور الطائفي والعرقي بين العراقيين. كأنّنا بالشريط يقول إن الشعب العراقي بأكمله كان ضحية نظام صدام الذي لم يفرّق بين طائفة أو مذهب أو عرق. أما حضور الاحتلال الأميركي فيأتي بمثابة الخلفية للأحداث، أو السبب في فتح المقابر الجماعية. سيمضي الفيلم بالفجائعية إلى آخرها، وصولاً إلى موت الجدة لحظة يقع فيها الولد على حدائق بابل المعلقة!
يقدم الدراجي في «ابن بابل» مشهدية خاصة. لكن يبقى الرهان الأول والأخير للفيلم مأساوياً مركزاً على استثارة العواطف، وهو يحاول قدر المتاح محاكاة مأساة بحجم العراق. ولعل النهاية هي الذروة الدرامية للفيلم، لكنها ذروة من دون حل، تماماً كالواقع العراقي الذي ما زال يتنقّل من ذروة إلى أخرى وما من حلول.

يمضي العراقي بالفجيعة إلى الذروة، فيما يقع الأميركي في مطّب المقاربة الهوليوديّة للفاجعة
وفي شيء من المجاورة، أو البحث المآساوي في الشق الآخر من احتلال العراق، يأتي The Messenger (الرسول). شريط أوفر موفيرمان يقفز بنا إلى الولايات المتحدة، لمقاربة الجنود الأميركان الغائبين تماماً عن فيلم الدراجي. سنكون أمام فوستر (بن فوستر) العائد من العراق، والمهمة العجيبة التي توكل إليه. إذ يقع على عاتقه تبليغ أسر الجنود بوفاة أبنائهم أو أزواجهم، فإذا بنا أمام مساحة خاصة لمعاينة مآسي الأهل وعبثية الحرب وثمنها الباهظ. لكنّنا هنا أمام غياب كامل لمأساة العراقيين في الفيلم مقابل تركيز مطلق على معاناة الجنود الأميركيين فقط.
سيكون على فوستر بدايةً الإنصات لما يقوله قائده (وودي هارلسون)، ولمجموعة نصائح وتعليمات ينبغي له التزامها لدى تبليغه أسر الضحايا. ثم يمضي الفيلم متنقلاً من أسرة إلى أخرى، ومن رد فعل إلى آخر، فالأمر مفتوح على شتى الاحتمالات، ولا يمكن في أي حال من الأحوال توقّعها. هكذا نمضي خلف قصص كثيرة ومختلفة. فهذا الأب يبصق في وجه فوستر قائلاً: «لمَ لا تكون أنت المقتول». هذا مثال بين العديد من الأمثلة في الشريط تجعلنا ننتقل بين شخصيّات ومصائر وقصص متنوعة. لا بل إن فوستر يتورط في علاقة مع زوجة أحد الجنود التي تتلقى نبأ وفاته، وكل ما تفكر به هو ابنها الذي أمسى يتيماً. وعندما ننتقل إلى عالم فوستر الخاص، نجده مأزوماً ومحاصراً بالكوابيس، لا يغادره الأرق.
يمكن تقسيم الفيلم إلى قسمين: القسم الأول غني ومليء بالمفارقات والدراما والجرعات العاطفية. وفي كل مهمة تبليغ، نكون مع مشاهد ولقطات محكمة. لكن في جزئه الثاني، ينعطف الشريط إلى «هوليودية» واضحة، تمضي خلف علاقة فوستر برئيسه الذي يتحلى بخفّة دم ويخفي مشاعره خلف قسوة استعراضية. هنا يمسي العمل أشبه بأفلام الجنود العائدين، وتمردهم ورغبتهم بالخلاص مما هم فيه عبر صيد السمك في ألاسكا أو مرافقة النساء... لكنّ «الرسول» يستدعي التوقف في جزئه الأول فقط، لكونه يقدم بحرفية عالية الجانب الإنساني البحت المترتب على الاحتلال الأميركي للعراق.