إذا بتقدر تتحمل النار على خفيف...محمد خير
رجل يدخل منزله شبه المظلم، لا يضيء النور بل يتّجه نحو خزانة في الصالة، يفتحها ليخرج زجاجة مشروب روحي، يصبّ لنفسه كأساً يضعها على المنضدة، ثم يستريح مواجهاً التلفزيون. هنا، تبدأ المؤثرات البصرية عملها: لسان من النار يلهب الكأس التي تكاد تشتعل، وعلى الشاشة نقرأ كلمات تراصت بجوار الكأس المشتعلة: «إذا بتقدر تتحمل النار على خفيف»، يمدّ الرجل يده متناولاً الكأس، فتكتمل الكلمات «إشرب على خفيف». تقترب الكأس الملتهبة من شفتي الرجل ليتجرّع رشفة النار، بينما الكلمات تتابع: «ما أسكر كثيره، فقليله حرام» (حديث نبوي)، وتتلاعب المؤثرات بالصورة فيبدو وجه الرجل بين النيغاتيف والمظلم، أقرب إلى شيطان. وتنتهي «الدعاية» بصوت يعلن «مؤسسات الوليد بن طلال الخيرية والإنسانية... التزام ليس له حدود». ينطقها الصوت «التزام»، وتكتبها الشاشة «التزامنا». وهي وسيلة من فنيات الدعاية لدمج المعنيين وإسقاط المفهوم العام على الجهة الخاصة. لكن ليست هذه هي المسألة. إذ يبدو مثيراً للتساؤل، أن تنفق المؤسسة الخيرية هذا المال وهذه التكلفة، فقط لتقول للمشاهد المسلم، أو لتعلن عليه اكتشافها الجديد، ألا وهو أنّ «الخمر حرام»!
لا يندرج الأمر ــــ والدعاية ــــ في سياق رسائل شبيهة درجت الشاشات العربية على بثّها في الآونة الأخيرة، من عينة «البركة في الشباب» و«حملة الرحمة» وغيرها من رسائل تفترض أنّ الإنسان العربي ما زال يجهل أبسط أساسيات التعامل الإنساني، بعد آلاف السنين من التاريخ المكتوب، فيحتاج لمن يشرحها له، بدلاً من توجيه المال والجهد إلى البحث في أسباب الظواهر المرفوضة، والتنقيب في دوافعها.
لكن ذلك يبدو جهداً غير مرحب به عادة في معظم أنحاء العالم العربي، لأنّه يفتح أبواباً تغلقها السلطات عادة، لما قد تكشف عنه من مسببات الاحتقان الاجتماعي. لكن ما ينطبق عليه مثل هذا الحديث، كالعنف والكبت والرعونة والتسيّب وغيرها من ظواهر، يبدو مختلفاً وفي غير سياق الدعاية المذكورة عن الخمر، رغم التشابه الظاهري في أخلاقيته. إذ يرتبط الخمر بالتحريم الديني أساساً. ومن هنا، تأتي الدعاية مستخدمةً نصاً دينياً أيضاً، والنص الديني مطلق بطبيعته وغير متعلق بالظرف. ومن غير المنتظر أن تؤثر في تطبيقه دعايةٌ تلفزيونية، لأنّ كل طفل يعرف بالحرمانية الدينية للخمر، تماماً كما يعرف أساسيات الأوامر والنواهي الدينية. لكننا نجد أن المؤسسة نفسها (الوليد بن طلال الخيرية) تنتج دعاية أخرى في السياق نفسه، حيث مجموعة من الشباب مجتمعون في بيت، مظلم قطعاً كالعادة، يتعاطون المخدرات ويلفّون المسحوق المخدر في كل ورقة تتاح لتأدية الغرض. حتى أن أحدهم «يلفّ» المسحوق في صورة فوتوغرافية تضم أسرته، فيقطعها ويدوّرها كسيجارة ليدخّن بها المخدر! بل يستخدم أيضاً ورقة أخرى ما هي إلا «شهادة تخرج»، فبدا كأن هؤلاء المدمنين يملكون كل أنواع الأوراق ما عدا ورق اللفّ! ولا تستخدم الدعاية هنا نصاً دينياً، بل تحاول التلاعب بالألفاظ (لا تلف... الدنيا فيك). وربما يدل ذلك على قصور آخر. إذ يقترب من «النظرية» التي يتعاطى بسببها البعض المخدرات عوضاً عن الخمر بحجّة أنّ الأولى ليست محرمة بنصّ ديني!
المفارقة هنا أنّ الدعايتين حملتا، إنتاجاً، توقيع مؤسستين شقيقتين لا علاقة لأهدافهما بموضوع الدعايتين. الأولى هي «الوليد بن طلال الخيرية»، وتلك حديثة التكوين دشنها الأمير قبل فترة، بهدف «الحوار بين الأديان، وتنمية روح القيادة، وتطوير المشاريع الخيرية في المملكة العربية السعودية، والتخفيف من حدة الفقر، والإغاثة في حالة الكوارث الطبيعية». أما الأخرى فهي «مؤسسة الوليد بن طلال الإنسانية ـــــ لبنان» التي تأسست عام 2003 ، وتعمل على «توفير فرص التدريب والتعليم والعمل للنساء والشباب في منطقة الشرق الأوسط من خلال دعم المشاريع الإنسانية التنموية بشراكة مع منظمات متخصصة في مجالها، كما تسعى المؤسسة للقضاء على ظاهرة الفقر عالمياً من خلال رعاية المؤسسات والصناديق والمنظمات الخيرية العالمية وتنميتها، وضمان الإغاثة السريعة والفعالة للدول الفقيرة المتضررة من الكوارث الطبيعية». من الملاحظ هنا أن المؤسستين تلتقيان عند هدف مكافحة الفقر. علماً بأن الفقراء لا يملكون نقوداً يُخشى أن ينفقوها في الخمر أو المخدّرات!





zoom

صكّ البراءة



ليال حدادبغضّ النظر عن هذا التجاهل، يبقى الحديث عن الإعلان مثيراً للاهتمام، وخصوصاً إذا أدركنا بطبيعة الحال أنّ هدفه يتخطّى الرسالة المباشرة أي مكافحة شرب الخمور. صاحب الإعلان هو «مؤسسة الوليد بن طلال». أما مكان عرضه فهو «شاشة الوليد بن طلال» أي «روتانا». لا مفارقة طبعاً، بل يبدو الأمر طبيعياً للوهلة الأولى. مع ذلك، هناك تفصيل لافت ألا وهو التعارض بين ما تبثّه القناة من أغانٍ وفيديو كليبات وموسيقى، وهذه الرسالة الدينية الممهورة بعبارة من الحديث النبوي «ما أسكر كثيره، فقليله حرام».
ولعلّ هذه الملاحظة تطرح مجموعة من علامات الاستفهام: هل يحاول بن طلال الالتفاف على منتقدي قنواته الفنية من خلال تأكيد تمسّك المحطة بالثوابت الدينية؟ هل تهدف الحملة إلى «فكّ الحصار» عن الأمير بعد خيبات الأمل التي أصيب بها إثر منع مجموعة من الأعمال الفنية والثقافية داخل المملكة بعد اعتراض المتشددين عليها. وأبرز هذه الأعمال كانت الفيلم السعودي «مناحي» الذي قوبل باحتجاج كبير داخل السعودية، إضافة إلى الضربة الأكبر المتمثّلة في إلغاء الدورة الرابعة من «مهرجان جدة السينمائي» قبل ساعات من انطلاقه في تموز (يوليو) الماضي. كما كان للضجة التي أثيرت حول حلقة برنامج «أحمر بالخط العريض» الشهيرة عن الجنس وأدّت إلى سجن الشاب مازن عبد الجواد وجلده، تأثيرها على صورة بن طلال. فهل جاء هذا الإعلان بمثابة صك براءة للوليد... وقنواته؟