عداوة وهميّة لمعالجة الهزائم المزمنةبدر الإبراهيم
ليست مجرد مباراة كرة. إنّها المباراة ـــــ الحلم. المباراة التي ستغيّر مجرى التاريخ وتحوّل الهزائم إلى انتصارات، وهي الإنجاز الذي سيمحو الإخفاقات كلّها. لم تعد القضايا والهموم الداخلية مهمةً، ولا الحروب المعلنة والمستترة في المنطقة. ليس هناك قضية سوى قضية المونديال... ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة!
في مصر، قضت الأجندة السياسية بإشغال الناس عن قضايا الفساد والفقر والبطالة وتوريث جمال مبارك وتحالف النظام ضد غزّة وأهلها بالكرة وهمومها والمونديال وشجونه، فتحوّل المنتخب إلى الجيش الوطني الجديد الذي يخوض معركة المصير ضد «العدو». وفي الجزائر لا تختلف الحال كثيراً. إشغال الناس عن الفقر والبطالة والهجرة السرية والإرهاب والإخفاقات الحكومية، بكرة القدم أمرٌ مطلوب ومرغوب. ولا بأس في خلق حالة شوفينية تجعل إخوة اللغة والدين والتاريخ عرضةً للسخرية والشماتة والتشويه المنظّم.
نفّذ الإعلام ببراعة يُحسَد عليها الأجندة السياسية، وقامت أبواق السلطة بوظيفتها على أكمل وجه، فلم يعد حُلم الـ 80 مليون مصري بالحصول على فرصة عمل وعيشٍ كريم بل بالوصول إلى المونديال. وصار أقصى ما يتمناه الجزائريون تأهّل منتخبهم، ما سيعزّز اللحمة الوطنية ويعيد الشعور بالانتماء إلى المهاجرين والمغتربين.
نجح الإعلام في صناعة معركة وعدوّ من الوهم، وأعاد إنتاج مفهوم الوطنية وفق شروط جديدة أهمّها التخلص من شعارات الأُخوّة القومية والانتماء العربي بالاستعلاء على الشقيق وتذكيره بـ«الأفضال» والمبالغة في استفزازه واستعدائه وتجاهل العدو الحقيقي الذي بات ذكره جزءاً من خطابٍ خشبي عفا عليه الزمن. جرى تحريض الشعبين بعضهما على بعض بإحياء المشاعر «الوطنجية» التي تعبّر عن عصبية قبلية ووطنية شوفينية، وتتستر باسم الدفاع عن الوطن. إنّها العودة إلى الجاهلية.
وفق هذا المفهوم، أذيعت الأغاني الوطنية النضالية التي كانت تذاع أيام الحرب ضد العدو القديم، وقابلتها أغانٍ مماثلة على الضفة الأخرى. ووصل الأمر إلى درجة أنْ توعَّد الجزائريون المصريين بهزيمة أشد مرارة من النكسة. في المقابل، وصف المصريون الجزائريين بأنهم عبيدٌ للاستعمار الفرنسي، فشطب الإعلام الرسمي في البلدين تاريخاً من النضال المشترك ضد الاستعمار الفرنسي والعدوان الإسرائيلي. وصار مَن يزور الجزائر لتهدئة الأجواء كمن يزور تل أبيب.
تأثر كثيرون بالتجييش الإعلامي الكبير، فقامت المعارك على الإنترنت وانتشرت الشتائم المتبادلة على المواقع الإلكترونية والمنتديات وأُنتجت أفلام قصيرة ومقاطع فيديو وأغانٍ وبوسترات أفلام «معدّلة» عن المعركة الكبرى. ولم يكن مستغرباً تشنّج الإعلاميين الرياضيين المتعصبين ودخولهم المعركة من الباب الواسع. هم الذين لم يأخذوا من الرياضة إلّا المزيد من التعصب والانفعال. ولم يكن مستغرباً أيضاً دخول إعلاميّي السلطة وخادمي أجندتها المعركة بكل ابتذال. لكن المستغرب والمؤسف أن كاتبة مثل أحلام مستغانمي استُفِزَّت فأعطت تصريحاً انفعالياً عمّا رافق مباراة القاهرة من أحداث. فالمتوقع من المثقف في ظروف اشتعال الفتنة أن ينأى بنفسه عن نارها ويقوم بتوعية الناس. لكنّ الفتنة مستمرة حتى الآن والأمور إلى الأسوأ، وخصوصاً أنّ مباراة اليوم في الخرطوم ستكون حاسمة. سيفوز أحد الفريقين ويتأهل إلى «مونديال 2010»... وحده التاريخ سيسجّل ما حدث بكلّ خجل.


خارج السرب

رغم حماوة المعركة الإعلامية بين المصريين والجزائريين، لا تزال بعض الأصوات العاقلة، تدعو إلى وقف ما سمّته «عار الأمة». هكذا، أنشئت على موقع «فايسبوك» مجموعة بعنوان «ضدّ الشوفينية في القاهرة والجزائر وفي كل مكان». ونبّهت هذه المجموعة إلى خطورة ما يجري نتيجة مباراة كرة القدم، وخصوصاً لجهة استعمال بعض الألفاظ الشوفينية، مثل استبدال كلمة egyptiens (مصريين) بكلمة egychiens. وتعجّب الأعضاء في بيان أصدروه، من دعوات المطالبة بفتح جسر جوي بين الخرطوم والعاصمتَين المصرية والجزائرية، «هل فكّرنا في حلّ مماثل لإغاثة أهالي غزة أو دارفور؟ هل فكرنا في ذلك لمساعدة سكّان المناطق الجزائرية أو ضحايا حادثة القطار في مصر؟»... ووجّه البيان تحية إلى صحيفة «المصري اليوم» التي أطلقت حملة «وردة لكل جزائري»، فيما انتقد الأداء «المخزي» لصحيفة «الشروق» الجزائرية، التي أسهمت في إزكاء نار الفتنة.
من جهة أخرى، أطلق مثقفون وفنانون مصريون وجزائريون وعرب حملة واسعة لتوقيع بيان يدعو إلى تهدئة الأجواء. وأطلق عدد من المشاهير، بينهم محمود ياسين ويسرا وهند صبري ونقيب الممثلين المصريين أشرف زكي، دعوةً إلى توقيع بيان تهدئة، بعدما بلغ الأمر حد التحذير من إمكان وقوع اعتداءات واسعة في أعقاب المباراة الفاصلة.
في الإطار نفسه، أطلق الكاتب المصري مصطفى النجار مبادرة بعنوان «الأقصى يجمعنا» تدعو إلى الاهتمام بالقضايا القومية على رأسها قضية القدس. فيما أصدر رئيس «حزب الأمة القومي» السوداني الصادق المهدي بياناً هاجم فيه كل وسائل الإعلام التي سبّبت تأجيج الغرائز.