تندرج «مكان»، أسطوانتها الثالثة لها منذ الانفصال عن «صابرين»، في خانة طربية حديثة وغير مألوفة. لقد غابت النصوص الواقعية، واكتمل نضج الأسلوب المشبع بالسوداوية. أما النبرة الخاصة، فلا تزال علامة فارقة في صوت هذه المغنية المخضرمة التي تطلق السبت عملها الجديد من فلسطين المحتلّة
بشير صفير
أربع سنوات مرّت على «وميض» كاميليا جبران، الألبوم الذي «انحرفت» فيه موسيقياً الفنانة الفلسطينية إلى الحداثة الغربية وركنها الإلكتروني. بعد الرحلة الطويلة مع فرقة «صابرين» الشهيرة التي انطلقت عام 1982 وانتهت عام 2002، انتقلت المغنية والملحنة وعازفة العود الأبرز في الأغنية الفلسطينية المعاصرة، إلى سويسرا حيث خاضت تجربة مستقلة وخاصة. «محطّات» ثم «وميض» (مع فرانز هاسلر)، وها هي تصدر أسطوانة «مكان» التي تأتي استكمالاً للتوجه المعتمد في



مقطع من "يداي"








العمل السابق. لكنّ الإلكترونيات سقطت من المعادلة الموسيقية، وصمد العود وحيداً إلى جانب القصيدة الحديثة والأداء الصوتي. مع ذلك، لا تزال الأمور على حالها في ما يخص الحديث عن مرحلتَين مفصليتين في تجربة الفنانة: قبل التغرُّب وبعده.
تعود كاميليا إلى حيفا، بعد غياب طال، بدعوة من «جمعية بيت الموسيقى» التي تحتفل بالذكرى العاشرة لتأسيسها. في الأمسية التي تقام بعد غد، تقدّم كاميليا ألبومها الجديد «مكان». لكن يبقى



مقطع من "نبض"








السؤال: هل سيجد العمل مكانه لدى جمهور اعتاد الأغنية الشعبية المعاصرة التي نجحت في رسم خطوطها فرقة «صابرين»؟ هذا ليس انتقاداً للعمل الجديد بحدّ ذاته، بل إشارة إلى أنّ الخطوة التي قامت بها كاميليا تجاه النمط الغنائي الجديد، قد لا يجد مَن يتلقفه من الجمهور الفلسطيني، أقله في مرحلة التعارف والتماس الأول.
في المقابل، تخلّت كاميليا عن الشق الإلكتروني الذي كوّن الجزء الموسيقي الأساسي في «وميض»، من دون أن تتنكّر لهذه التجربة



مقطع من "صمت"










لناحية الإبقاء على الخطوط العريضة الأخرى، وأبرزها القالب الغنائي وطريقة الأداء. في «مكان»، اعتمدت كاميليا القصيدة النثرية (معظم القصائد للشاعرَين سلمان مصالحة وحسن النجمي)، بعدما اتضح، أن النص النحوي الحرّ لم يلتصق بالمرافقة الموسيقية الإلكترونية، إذ أتت التجربة السابقة عبارة عن لقاء عابر من دون تفاعل يذكر. حوى «مكان» تسع قصائد لحنتها وأدّتها كاميليا بمرافقة عودها دون سواه. هي بمثابة أغنيات حديثة القالب، أقرب إلى المواويل غير المُوقّعة، ذات الطابع شبه المرتجل. كل هذه الخصائص تدرج العمل في خانة طربية حديثة وغير مألوفة.

نبرة مشتركة بين رموز الأغنية الفلسطينية المعاصرة
ما قد يعطي إحساساً بالاعتباطية في اختيار مكوّنات اللحن، ويعززه من جهة ثانية الشكل الفوضوي لقالب الأغنية. غير أنّ الوقوع على بعض النغمات الجميلة، يجبرنا على تخيلها منظَّمة في هيكلية سهلة المقاربة من المستمع. فالأغنية بشكلها العربي الكلاسيكي قد تكون أقرب إلينا من الشكل الحرّ المُعتمَد هنا. وتطويرها لا يجوز أن يتخطى حدود المعدّل العام لثقافة الجمهور الموسيقية. بمعنى أن جرعة الحداثة التي يمكن ضخها في شرايين الأغنية الكلاسيكية (والفولكلور) يجب ألاّ تزعج الجوهر.
غابت النصوص الواقعية التي غنتها كاميليا أيام «صابرين»، وبات أسلوبها العام خالياً من الأمل، ناضحاً بالسوداوية (بعض المحطات تلامس الندب)، بعدما كانت لسان حال الصابرين، المتطلعين إلى الفرح رغم صعوبات أن يولد المرء فلسطينياً. مع ذلك، وإلى جانب الأداء الذي يصل حدّ التجريبية، لا تغيب النبرة الخاصة عن صوت المغنية المخضرمة. تلك النبرة المشتركة بين كل رموز الأغنية الفلسطينية المعاصرة.
«مكان» ألبوم قد يصبح رمزاً للريادة في الأغنية العربية الحديثة. وقد يُذكر في سجل التجارب التي كان لا بدّ من خوضها للتأكد من عدم جدواها. القرار النهائي دائماً بيد الجمهور. جمهور هذه الأغنية لا الجمهور الغربي.



خطأ مقصود

«يداي»، «رفيف»، «صوَر»، «لفظ»، «قوافل»، «مكان»، «أرجوحة»، «نبْض» و«صمْت». تؤدي كاميليا جبران هذه الأغنيات بمرافقة عودها فقط (أحياناً تقوم بتسجيل مضاعَف للعود، لإغناء المرافقة الموسيقية). لكن في المحطة ما قبل الأخيرة، يطالعنا إقحامٌ مزعج جداً لمؤثرات خاصة في الخلفية الصوتية للأغنية، يظن المستمع أنها خلل تقنيّ في التسجيل... لولا المرور العابر لذبابة (!)، بعد البداية بثوانٍ، وقبل الختام بثوانٍ أيضاً. هذا «خطأ» غير مبرَّر، وإن كان مقصوداً. لحسن الحظ أن التيمة المتكرِّرة التي تنتقل كما هي من «نبْض» إلى «صمْت» لم تجرّ معها تلك الذبابة!