يقدم عازف البيانو الأميركي الجزء الثاني من برتيتات باخ من خلال أداء ناصع، يضيف إلى رصيده جوهرة جديدة. وصاحب الخلطة السحريّة، يعرف أيضاً كيف يكون متواضعاً

بشير صفير
حين أصدر موراي بيرايا (1947) أسطوانة حوت الجزء الأول من البرتيتات الست (6 partitas) التي كتبها باخ لآلة الكلافسان العام الماضي، (راجع «الأخبار» عدد السبت ٢٦ نيسان/ أبريل ٢٠٠٨)، اختار البرتيتات 2، 3 و4 كمرحلة أولى. وعد حينها أنّه سيصدر البرتيتات الباقية 1، 5 و6 أواخر عام 2009. وبالفعل، التزم العازف البيانو الأميركي بموعده. كعادته، وفى عازف البيانو الأميركي بوعد قطعه لجمهور الموسيقى الكلاسيكية منذ عقود. يقدِّم هنا أداءً ناصعاً، مضيفاً إلى رصيده جوهرة جديدة. غريب أمر هذا العازف! كيف يتمكّن من الإفلات في كل مرة من مطبّات الأعمال «الخطيرة»؟ هامش الخطأ هنا، كما في أعماله السابقة: صفر.
منذ سنتين، نال التقدير والثناء على صفحات معظم المجلات المتخصِّصة بالموسيقى الكلاسيكية. وهذا الشهر، مثّل جديده حدثاً

يلجأ دائماً إلى مقاربة أدائية سهلة الشكل وصعبة التنفيذ

عالمياً، إذ كرست له مجلة «ديابازون» الفرنسية العريقة غلافها، ومنحته علامة التقدير الأعلى. طبعاً، لا تكفي هذه السطور لتشريح أداء موراي بيرايا في الأسطوانة الأخيرة (ولا ندّعي أساساً القدرة على ذلك)، لكن يمكن اختصار المسألة بجوهر الاستراتيجية التي يعتمدها هذا العازف منذ بداياته.
يلجأ دائماً إلى مقاربة أدائية سهلة في الشكل، لكنها صعبة التنفيذ. ينطلق من الاحترام المطلق لشخصية العمل ولإرادة المؤلف، معتبراً أن قيمة العازف تتجلى في تفانيه. لكنه لا ينسى
إضفاء لمسته الخاصة على العمل من خلال رؤيته الفريدة.
السرّ في هذه اللعبة يكمن في المحافظة على التوازن بين مقادير الخلطة السحرية، أي بين حضور المؤلف والعمل من جهة، وهامش أداء العازف من جهة أخرى، بين تحليل العمل وتأثير نتيجة هذا التحليل على الأحاسيس، وتظهير كلّ ذلك بصدق، ومن دون مزايدات على المؤلف. لكن مَن هو ملهم موراي بيرايا في أداء المعلّم



مقطع من "partita n:5 / allemande"







الألماني؟ طبعاً، ليس «العفريت» الكندي غلان غولد. إنها الرائدة التي أثرت بكثيرين في هذا المجال، فاندا لاندوفسكا (1879ــــ 1959) (راجع «الأخبار» عدد 25 حزيران/يونيو 2009) التي تعلَّم منها بيرايا، أمراً هاماً على حدّ قوله، وهو: التواضع.


باخيّ الهوى

قبل الشروع في أداء أعمال باخ، تسلّح موراي بيرايا بخبرة طويلة منذ الستينيات. في رصيده، أعمال لموزار وبيتهوفن وشوبان وشوبرت وشومان ومندلسون وهاندل... في أواخر التسعينيات، قرّر بيرايا خوض المغامرة مع باخ. أصدر بدايةً المتتاليات الإنكليزية الست، بعدها «تنويعات غولدبرغ» ومن ثمّ الكونشرتوهات السبعة للبيانو والأوركسترا (تولى بيرايا قيادة الأوركسترا أيضاً) والكونشرتو الإيطالي للبيانو المنفرد وبعض الأعمال المتفرقة. في المستقبل، يُتوقع أن يستكمل بيرايا هذا المشروع بأداء المتتاليات الفرنسية الست (الأكثر ترجيحاً)، وربما قبلها أو بعدها Le Clavier bien tempéré. لكنه صرّح في إحدى مقابلاته الأخيرة، أنه اشتاق إلى المؤلف النمساوي شوبرت، لكنّ الأسطوانة المقبلة ستكون لبعض أعمال البيانو المنفرد للألماني برامز.


إخفاق بولّيني

بعد انكفاء عميد عازفي البيانو في عالم الموسيقى الكلاسيكية، ألفرد براندل (1931)، بات العازفان، الإيطالي ماوريتزيو بولّيني (1942ــ الصورة) والأميركي موراي بيرايا (1947)، رأس حربة في هذا المجال. هذا الشهر، مثَّل الرجلان حدثاً استثنائياً لأكثر من سبب. أولاً، تزامُن إطلاق جديد كل منهما. ثانياً، تقديم الاثنين أداءً أحد أعمال باخ. ثالثاً، والأهم، أن نجاح بيرايا، قابله إخفاق بولّيني الذي استقبل النقاد العالميّون تسجيله بفتور. والأسوأ أنّ الإخفاق أتى موجعاً لأنها المرّة الأولى التي «يجرؤ» فيها العازف الكبير على مقاربة باخ. وقد اختار الكتاب الأول من العمل الذي يُسمى «العهد القديم» في «ديانة البيانو»:
Le Clavier bien tempéré. طبعاً، سيمثّل ذلك صدمة للعازف الإيطالي الذي قد يقطع علاقته نهائياً بباخ.