بكثير من التبسيط والاختزال، يتصدّى المؤلّف لإشكاليات مطروحة بإلحاح على الوعي العربي. من خلال «فصل الكلام في مواجهة أهل الظلام» (دار الساقي)، يشنّ الكاتب الجزائري حرباً على الإسلام، محمّلاً إياه مسؤوليّة كلّ مصائب الأمّة
ريتا فرج
العلمانيّة، الحداثة، فقه العنف، الأصوليّة، المرأة والاجتهاد، هذه الإشكاليات وغيرها يطرحها حميد زناز في كتابه «فصل الكلام في مُواجهة أهل الظلام» (دار الساقي). يقارع الكاتب الجزائري الفكر الديني الأصولي لكن بكثير من التبسيط والاختزال... وبشيء من الأصولية أيضاً! العمل كناية عن مقالات وتحقيقات صحافيّة مبنية على «الملاحظة العينية والتجربة الذاتية»، وتنأى عن «تحاليل نظرية قد تحلّق فوق الواقع» وفق ما جاء في المقدمة.
يستهلّ الكاتب مقدّمة الكتاب بفكرة استحالة التوفيق بين الدوغما الإسلامية والحداثة، على اعتبار أنّ النصوص التأسيسية في الإسلام غير قابلة لإحداث التحوّل المطلوب. ويتساءل زناز: «كيف ولماذا روحن التاريخ دين المسيح وسيّس دين محمد؟ وهل الإسلام عصيٌ على الحداثة؟». للإجابة، ينطلق المؤلف من الحضور الكثيف للدين في حياة الأفراد في العالم الإسلامي، معتبراً أن دعوات أسلمة المجتمع التي يخوضها رجال الدين والسلطة معاً، تعيق تطبيق العلمانية. والأسلمة التي يتحدث عنها زناز، لا تقتصر على ديار الإسلام، بل إنّ الأصولية الراهنة تسعى إلى نقل معركتها خارج حدودها الرسمية، حاملةً معها معتقداتها ورؤيتها لله والوجود، في ما يمكن تسميته «الإسلاموية العابرة للقارات».
ولدى طرحه فرضية المواءمة بين الإسلام والحداثة التي خاض غمارها كبار المثقفين العرب، يخلص زناز الى أنّ هناك اختلافاً إبستمولوجياً بين الطرفين، فالدين ثابت والحداثة انتقالية. صحيح أنّ الدين ثابت، لكن أليست المعرفة الدينيّة متغيّرة ومتحولة؟ ألا تندرج في هذا السياق كل الأطروحات والدراسات التي طالعنا بها روّاد الفكر الإسلامي الحداثوي أمثال محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وغيرهما ممن جابهوا ما يسمّيه كاتبنا بـ«الدوغما الإسلامية»؟ أضف إلى ذلك أنّ الإسلام كدين يدعو الى إعمال العقل بدليل أن كلمة «تعقلون» وردت أكثر من 24 مرّة في القرآن. بالتالي، فالإسلام المصدري يختلف عن الإسلام التاريخي والمذهبي. بمعنى أنّ القرآن كنص مقدّس لا يحجب عن قارئه أو مؤوّله ضرورة الخروج بالاجتهادت التي تسيّر شؤون معتنقيه، فيما التمذهب هو الذي أنتج الانسداد الراهن.
وتحت عنوان «الاجتهاد: هل هو تجميل لوجه الأصولية؟»، يستشهد الكاتب ببعض آيات «سورة التوبة»: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغْلُظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير». ويخلص إلى أن الجهاد عقيدة يحملها الإسلام أينما وجد، ليحارب بها الكفّار ويقيم الدولة الإسلامية. لا شكّ في أنّ التعبئة التي تتلقاها الحركات الإسلاموية تتبنى هذه الشعارات، لكن ما أورده الكاتب عن آيات الجهاد، لم يعرضها في سياقاتها التاريخية، ولم يفصل بين الآيات المكية والآيات المدنية وارتباطها بعلائق الإسلام الأول مع القبائل المنتشرة في الجزيرة العربية ومع المسيحية واليهودية خلال مرحلة نشر الدعوة.
ويفتح زناز ملفّ الإصلاحية الإسلامية بدءاً من ابن رشد وصولاً إلى الإصلاحيين الجدد، مؤكداً عجزها عن تحقيق التغيير المطلوب لأنها بلورت نظرياتها ضمن الجمع بين الشريعة والعقل. هذا التوفيق يبدو لزناز مستحيلاً لأنه وصل إلى حائط مسدود في ظل الجهل الذي تتخبّط به الجماهير العربية. ما يعني ــــ وفق قراءتنا ــــ بأنّ أزمة الإسلام، هي أزمة واقع مضطرب ولا علاقة لها بالدين؛ فالانكسارات السياسية والاقتصادية والقلق المجتمعي ولّدت بيئات متدينة. وبالتالي، فالكاتب يستعرض أزمة المسلمين عبر خطاب إنشائي، ولا يفنّد أسبابها ضمن ثالوث السببية القائم على الفعل وردة الفعل والنتيجة.

لماذا روحن التاريخ دين المسيح وسيّس دين محمد؟
وفي حملته الصارخة ضد ما أسماه «رُهاب العلمانية»، يشن زناز حرباً على أطروحات الجابري، ومالك شبل وغيرهما عن استحالة الفصل بين الدين والدولة في الإسلام، ويصل إلى خلاصة أن هؤلاء كرّسوا ممانعة الفصل بين الديني والسياسي. وإذا كان ما تقدم به صحيحاً في بعض جوانبه، نطرح عليه إشكالية أخرى: كيف يمكن تطبيق العلمانية في مجتمعات مأزومة؟ وما هو تفسيره للتحولات البنيوية المتراكمة التي تنحو بوتيرة بطيئة نحو الحداثة في ديار الإسلام؟
يبقى أنّ تطبيق الفصل بين الدين والدولة في الحاضرة الإسلامية، بعد الانتكاسة التاريخية التي أصابتها، إثر محاربة فرقة المعتزلة وتداعياتها المتلاحقة، مسألة تحتاج إلى فترة زمنية أطول، والعلمانية التي يطالب بها الكاتب لم تكن نتاج الأزمنة الحديثة. شهدت القرون الأربعة الأولى للهجرة حركةً ثقافيةً مهمة، استطاعت الخروج عن قيود فرضتها السلطة الدينية. وقد عالج المعتزلة مسائل جوهرية، وفتحوا حقلاً جديداً من المعرفة، أنتج موقفاً عقلانياً نقدياً. ومن الناحية العملية، فإنّ الفكر المعتزلي أصبح المذهب الرسمي للدولة في عهد المأمون. من هنا، فالإسلام بحد ذاته ليس مغلقاً على العلمانية، بل عرف العلمانية حين استولى معاوية على السلطة السياسيّة، فتكوّنت عن ذلك، أيديولوجيا التدبير التي تمنح الحاكم الحق في كل شيء باسم الدين. وهذا الأمر وغيره من الخلافات على السلطة ليس إلاّ عملاً واقعياً لا علاقة له بأي شرعيّة غير شرعية القوة. فما هو جواب زناز على ذلك؟