حسين بن حمزة في مجموعته الجديدة «ليس من أجل الموناليزا» (دار النهضة)، وهي الثالثة له، يدعونا بشير البكر إلى أن نضع جانباً كل ما ننتظره عادةً من تقنيات وألاعيب وحِيَل شعرية. الشعر هنا هو حصيلة ممارسة شعرية مكتفية بالمواد الأولية لسيرة الشاعر وفكرته الجوهرية عن حياته. يمككنا القول إنه شعر باللحم الحي إذا جاز التعبير. أغلب الشعراء يستثمرون سِيَرهم ويدّسون أجزاءً منها، حقيقية أو محسَّنة بفعل المخيلة، داخل قصائدهم، ولكن الحال مختلفة لدى هذا الشاعر السوري الذي ترك حياة كاملة وراءه واختار العيش في باريس منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي. بهذا المعنى، الحياة السابقة باتت سجينة الذاكرة، وهو ما يجعل علاقة الشاعر بها خاضعة لنوستالجيا كثيفة وضاغطة. إنه مسحور بما مضى ومثقلٌ بتبعات حياة جديدة لا تتوقف عن إعادته إلى الماضي الفاتن والفتاك في آن واحد. الماضي هو قصيدة الشاعر الذي يواظب على استحضار أمكنته الأولى وحكِّ الراهن المعيوش بتضاريسها ومناخاتها. الحاضر هو «أرض الآخرين» بحسب عنوان مجموعته الثانية، وعليه أن يستعيد أرضه المفتقدة بالكلمات. وهو ما يبدو جلياً منذ القصيدة الأولى: «تلك حياتي/ فطرة الذئب في الفَلَوَات/ تحت السماء اللامتناهية/ بين الفرات ودجلة/ مطمورة في طمي الأسلاف/ مثل كنز ضائع».
لعلّ هذا المقطع يتضمن معظم مفردات المعجم الذي تتحرك فيه قصائد المجموعة: فلوات، سماء لا متناهية، الأسلاف، كنز. الشاعر يؤرخ حياته بجغرافيا واستعارات تتلاءم مع المكان الذي احتضن حياته الأولى في مدينة منسية بين نهرين، ومجاورة لقيظ البادية وفضائها المفتوح. في مقاطع أخرى، سيُسمي المدينة (الحسكة) ونهرها

كأنّه يكتب لنفسه أو يؤرِّخ ألمه وعزلته
(الخابور). نقرأ أكثر، فنعثر على مفردات تحمل المعاني نفسها: «حنين، النأي، الصحراء، قطعان، البوادي، القيصوم، البدو، الكثبان، الريحان، القطا، بنات نعش....». كل كلمة هنا هي مناسبة للتمرغ في ندوب أوجاع غامضة وبهجة مسرّات انقضت إلى الأبد. كأن الشاعر يقول لنا إن «الحياة هي في مكان آخر»، وإن ما يجري الآن يطفو كزيت خفيف على مياه الماضي الثقيلة: «لا أمل لي/ ولا بلد/ كأني أثرٌ قديم/ على الرمل/ بقايا ذكريات يمحوها الموج/ مثل رسالة لا تصل».
قصيدة بشير البكر عالقة في معجم الحنين الذي يتحول بدوره إلى كمين. إنه محكوم إما بالإصغاء «إلى ما بقي/ من أغانٍ قديمة/ لماضي الأرياف البعيدة»، أو بترديد أغنية مريرة: «أغنيتي مرّة/ ويُوجعني رخاءٌ يعيد». كأن الشاعر يكتب لنفسه أو يؤرِّخ ألمه وعزلته. قد لا يجد القارئ المتطلب مبتغاه في هذا الضرب من الكتابة، وخصوصاً أن الشعر اليوم بات مرهوناً بالتجريب والتحديث والأسلبة حتى لو جعل ذلك القصيدة محض أكروبات خالٍ من أي حياة ملموسة أو مكابدة حقيقية. إذا كان أغلب الشعراء الجدد مشغولين بإدهاش القارئ ومفاجأته في كل سطر (وهذا حقهم بالطبع)، فإن صاحب «قناديل لرصيف أوربي» مكتف بالكتابة عن جرحه الوجودي المتمثل في طَرْق الماضي المستمر على أبواب الحاضر، حيث يتحول الشعر إلى تأبين طويل للألم والأسى اللذين يدفعان الشاعر إلى الاقتناع بأن الصدق في الكتابة يظل صالحاً كجواز مرور إلى القارئ.