روايته «مجمع الأسرار» صدرت أخيراً بالفرنسيّة عن «آكت سود»، وستتلوها ترجمات بلغات مختلفة لـ«يالو» و«رحلة غاندي الصغير» و«الوجوه البيضاء». زيارة إلى صاحب «باب الشمس» الذي منح الفلسطيني صوتاً في الرواية اللبنانية
حسين بن حمزة
كتب عباس بيضون مرةً أنّ الفلسطيني لا يُذكر في الرواية اللبنانية، باستثناء أعمال إلياس خوري. لم يكن الشاعر ذو النظرة النقدية الذكية يكشف سراً، ولكن ملاحظته تصلح لتحليل ممارسة جوهرية لدى صاحب «باب الشمس»، الرواية التي لن يُذكر فيها الفلسطيني فقط، بل سيحتل كل مساحتها السردية، وستحوز جائزة فلسطين الكبرى. إلى جوار الفلسطيني، يمكن أن نضيف السوري أيضاً (نورما في «مجمع الأسرار»، ودانيال بطل رواية «يالو»)، علاوة على ذلك، سنجد أن اللبناني نفسه غير منقطع جغرافياً وسردياً عما يُسمى بلاد الشام (في «كأنها نائمة»، تقيم البطلة ميليا وزوجها منصور فترة في الناصرة، بينما شقيقاها يترددان إلى حلب وطبريا). لعل هذا يفسّر لِمَ وجدت روايات خوري حفاوةً عربية أكثر من مثيلاتها اللبنانيات. إلياس خوري معروف في الخارج بمقدار ما هو معروف في بلده، إن لم يكن أكثر. هذا لا يعني أن القارئ الفلسطيني أو السوري أقبل على رواياته بسبب حضوره فيها، بل لأن نبرة خوري نفسه لم تكن لبنانية بالكامل. نسأله عن ذلك، فيقول: «أنا لست تلميذ المدرسة اللبنانية. في الشعر، أحببت السيّاب وأدونيس ودرويش... وفي الرواية، نجيب محفوظ وإميل حبيبي وصنع الله إبراهيم وغالب هلسا وغسان كنفاني الذي كانت قراءة روايته «رجال في الشمس» ثاني خضَّة لي بعد رواية «الغريب» لكامو»، كذلك فإن مجتمع رواياتي مأخوذ من المجتمع الذي أحيا فيه. الكتابة عن الفلسطيني أو السوري لم تكن خياراً أيديولوجياً، بل كانت خياراً واقعياً».
أما نحن فنتذكر أن الرواية اللبنانية لم تكن واضحة المعالم حين أصدر خوري باكورته «عن علاقات الدائرة»، وعلينا ألا نغفل عن أن «الجبل الصغير»، رواية خوري الثانية، حملت ريادة رواية الحرب الأهلية اللبنانية، وهو ما جعل اسم مؤلفها يحظى بحضور إضافي في الدراسات والأبحاث، اللبنانية والعربية، التي أُنجزت عن أدب هذه الحرب. ولا ننسى المقدمة المميزة التي وضعها إدوارد سعيد للترجمة الإنكليزية لهذه الرواية، ونشره لهذه المقدمة ضمن كتابه الشهير «تأملات في المنفى».
التطرّق إلى صاحب «الاستشراق» يتقاطع اليوم مع تجدد الكلام على تجربة إلياس خوري لمناسبة صدور ترجمة «مجمع الأسرار» إلى الفرنسية (دار آكت سود)، وستتلوها قبل نهاية هذا العام ترجمة «يالو» إلى الكاتالانية والإيطالية، و«رحلة غاندي الصغير» إلى الإسبانية، و«الوجوه البيضاء» إلى الإنكليزية. في الإمكان القول إن الترجمة أيضاً كانت سبباً مهماً في رواج اسم خوري، لكن خارج لبنان والعالم العربي هذه المرة. يُقرّ خوري بفضل إدوارد سعيد عليه شخصياً، وعلى كل الثقافة العربية التي تخلّص حضورها، الفكري على الأقل، من التنميط المسبق بعد صدور «الاستشراق»، ما سهَّل على الأدب أن يُعامل كأدب حقيقي لا كوثيقة سياسية واجتماعية. بالنسبة إليه، إلى جانب جهود إدوارد سعيد «هناك ثلاثة عوامل أسهمت في تبدّل صورة الأدب العربي في الغرب: حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، حضور أدونيس العالمي، نضج السرد العربي».

يرى أنّ تجربته الروائيّة لا علاقة لها بنضاله السياسي
لا يمكن حصر حضور إلياس خوري في الرواية، فهو، وفق شهادةٍ للراحل سمير قصير، كاتب وصحافي ومواطن. والواقع أن هذا لم يعد خافياً على متتبّعي سيرة الرجل الذي أنجز أعماله إلى جوار ممارسات ثقافية وسياسية ونضالية متعددة.
قد يظن القارئ أن النضال السياسي والثقافي هو الذي حَرَفَ خوري عن الذهنية والتجريدية اللتين لازمتا لغة روايته الأولى والثالثة. نسأله إن كان مقدّراً له أن يحظى بسيرة روائية غير التي سلكها لولا انخراطه في هذا النوع من النضال، فيقول إن ما ندعوه «ذهنية وتجريداً» كان نوعاً من التجريب الطبيعي لروائيٍّ في مقتبل تجربته يتلمّس نبرة وأسلوباً وشكلاً خاصاً به. «ما حدث في الرواية لا علاقة مباشرة له بنضالي السياسي. أنا كنت مقاتلاً في صفوف «فتح» قبل أن أبدأ بالكتابة أصلاً. في «عن علاقات الدائرة» و«أبواب المدينة»، كان الواقع يتجلى من خلال مرايا. تخطّيت ذلك في «الجبل الصغير»، وابتداءً من «مجمع الأسرار» جرى مزج الواقع والمرايا معاً، واهتديت إلى المعادلة السردية التي سترافقني لاحقاً وتغتني من عمل إلى آخر».
ما الذي تسرّب من الصحافة إلى الرواية، نسأله أخيراً؟ «أتصوّر أن العكس هو الذي حدث. شغلي في الصحافة تأثر بالرواية. أنا كاتب اتخذ من الصحافة مهنةً ليعيش منها». يصمت قليلاً، ثم يضيف: «حتى في النضال والسياسة، لم أكن موظفاً أو محترف نضال. تطوّعت وقاتلت لأن واجبي كإنسان فرض عليّ ذلك. لولا الواجب لفضَّلتُ أن أكتب فقط... أكتب وأحب وأشرب عرقاً وأسمع موسيقى. فالكتابة هي مثلما قال أبو حيَّان التوحيدي: إمتاعٌ ومؤانسة».


حبيبتي... «الإمبريالية»؟

«مجمع الأسرار» هي الرواية السابعة التي تصدر لإلياس خوري في لغة موليير. وهو رقم كبير لكاتبٍ أصدر عشر روايات حتى اليوم. المواظبة على ترجمة أعمال كاتب معين باتت سياسة ذكية لدى بعض دور النشر لتوفير بيئة صحيحة لقراءة أعماله في اللغات الأجنبية. روايات خوري موجودة اليوم في 15 لغة. «باب الشمس» باعت 10000 نسخة في الشهور الأولى من صدورها في الولايات المتحدة، وهو رقم يتجاوز مبيعات رواياته في العالم العربي. الصدى الخارجي الذي يجده صاحب «يالو» عائد إلى كثافة ترجماته وتعدّدها، ولكنه عائد، في رأيه، إلى تغيّر طريقة استقبال الأدب العربي في الغرب. وهو رأي ناتج من معايشة حقيقية للمجتمع الأميركي، إذ يدرِّس خوري الأدب العربي المعاصر والمقارن في جامعة نيوريوك. «لكن هذا لا يعني أني أعتاش من الإمبريالية الأميركية كما كتب أحدهم عني أخيراً»، يعلِّق ساخراً.