محمد خير«كان عبد الستار قد لاحظ أنّه بدأ يرتكب حماقة، تجعله يعيد قراءة القصة مرة ثانية، لأنه أضحى، ما إن يبدأ بقراءة القصة، حتى يجد نفسه يتابع البطلة، ويتجاهل البطل. حتى أنه، تلقائياً، كان يقفز تلك الصفحات التي كان البطل فيها هو محور الحدث. وهو ما كان يجد فيه، وهو المحترف قراءة القصص، خيانة من نوع ما». في مجموعته القصصية «رجل العواطف يمشي على الحافة» (دار ملامح ــــ القاهرة)، لا يستخدم عبده جبير ضمير المتكلم إلا نادراً جداً. مع ذلك، يبقى الصوت الداخلي واضحاً في القصص الأربع والعشرين التي يضمها الكتاب. ومهما تعددت وتنوعت الشخصيات، بين كاتب أو قارىء، فتاة أو زوجة، موظف أو لاعب كرة، فإن الأسئلة هي نفسها، تدور حول الوحدة والهواجس، والوقت الذي يمضي بينما الآمال والرغبات تتآكل ببطء.
ينوّع المؤلف ـــــ ابن جيل السبعينيات ـــــ في القصص مجرّباً ولاعباً. لكنّ لعبه يتوقّف عند الموضوعات لا الشكل. القصص جميعها تستخدم ضمير الغائب، وعددٌ لا بأس به منها يبدأ بكلمة «كان» أو «كانت». لكنّنا إزاء لغة ناصعة منضبطة من دون زوائد، ندلف معها بسلاسة إلى عوالم الشخصيات. تلامس هذه العوالم واقعيتها وجنونها، إذ تبحث سلوى ــــ في قصة «القلب من الداخل» ــــ عن عنوان غامض لوظيفة مجهولة. في طريقها، تشاهد عملية تبديل ملابس المانوكان عبر واجهة محل تجاري. تدخل المحل هاربةً من الشاب الذي يلاحقها... وفي الداخل، تبدو لها عاديةً فكرة أن تتوظف بدلاً من المانوكان. تقف وراء الزجاج كل يوم مع

أسئلة الوحدة والهواجس والوقت والرغبات

ثوب جديد، يسخرون منها بالطبع فتغادر المحلّ. تشرب كوباً من العصير وتمشي بأقصى سرعة هاربة من الشاب ومن همسات السخرية معاً. تحدث نفسها: «عليّ أن أجهز نفسي بكذبة متقنة حتى تصدقها أمّي. وابتسمت: لن أقول لها إنّني فشلت... سأقول لأمي إن العنوان ضاع منّي». نحن لا نفهم ابتسامتها تماماً، ولا يقترح علينا المؤلف تعليلاً، بل يتركنا، كما في بقية القصص، عند تلك المسافة التي تختفي غرائبيتها بين السطور. تلك المسافة واللمسة الغريبة هي ما تنقل معظم الحكايات من الواقع إلى سياقها الفنّي.
العديد من أحداث القصص تصلح لأن تكون واقعية ورمزية معاً. لذا فإنّ مصطفى ـــ في قصة «زهرة واحدة في المدينة» ــــ يكتشف فجأة أنّه أضاع آلته الموسيقية في مكان وزمان لا يعرفهما. اكتشف ذلك في اللحظة نفسها التي اكتشف فيها «أنّ مشاعره، هذه المرة، لم تخنه، وأنّ حب ناتاشا قد تمكّن منه لدرجة أنّه لا يزال يحس بطعمها في فمه». ونعرف أنّ مصطفى كان حائراً لا يدري إن كانت نظرتها تتيه به أم بعزفه المتقن. وهو عندما يتأكد من الأولى، تضيع منه الثانية، لذا فإنّه مشوش الفكر ربما «لأنه لم يأكل منذ الصباح»، وهو مثل سلوى في القصة السابقة يهرب من كل ذلك بأن يستمر في المشي خلال المدينة، هو مثل بقية الشخصيات معذّب بشكّ متّصل يحرمه التواؤم مع حياته. حتى أنّ بطل القصة التي تحمل المجموعة اسمها «رجل العواطف يمشي على الحافة»، يذهب لتأدية دوره المسرحي، ويستسلم للماكيير وهو يرسم على وجهه ملامح هامليت، لكن «بينك وبين نفسك، لا تحسُّ «أنك مقتنع بقيامك بدور رجل دنماركي مهما كانت عظمته».