لدى إطلاق «سجل اختفاء»، عانى إيليا سليمان سوء الفهم لدى شريحة من المشاهدين العرب. اليوم، تصالح ابن الناصرة مع جمهوره، وانتزع مكانة مرموقة على الساحة العالميّة
عثمان تزغارت
سنوات طويلة مرّت منذ «سجل اختفاء» (1996)، باكورته في مجال السينما الروائيّة الطويلة. الفيلم الذي عرض في «أيام قرطاج السينمائية»، مثّل يومذاك صدمة لجمهور المهرجان التونسي. السينمائي الإشكالي الآتي من «الداخل» الفلسطيني، وجد نفسه في مواجهة نيران كثيفة أطلقها جزء من المشاهدين، وبعض النقاد العرب. اتهمه هؤلاء بـ«مهادنة الصهيونية»، وندّدوا بـ«الخطاب الملتبس» لفيلمه «المدعوم من المؤسسة الإسرائيليّة»!
عبثاً حاول ابن الناصرة شرح وجهة نظره: «أن تكون سينمائياً فلسطينياً هو في حدّ ذاته تحدٍّ. لكنّ فيلمي ليس دراسة أنثروبولوجية، أو تقريراً سياسياً عن شعب محتل ومنسي. السينما تستوجب تحويل الهم السياسي إلى موضوع شاعري قادر أن يخاطب العالم بلغة فنية يتفهمها ويحسّ بها».
لكن السنوات مرّت. واصل ابن الناصرة تجربته بصبر وعناد. وها نحن نطرح السؤال معكوساً: من كان يتوقّع أن يأتي يوم يحقق «الابن الضال» للسينما العربيّة كل هذا الاجماع، من المحيط إلى الخليج؟
بين «سجل اختفاء» و«الزمن الباقي»، تدفّقت مياه كثيرة تحت جسور الواقع العربي والفلسطيني. بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وفقاً لاتفاقية أوسلو ـــــ (غير) المغفور لها ـــــ سُلّطت الأضواء أكثر على معاناة ذلك الشعب الحاضر ـــــ الغائب، المتمثل في «عرب الـ48» حسب تصنيف متداول سقطت منه كلمة فلسطين. تشبث هؤلاء بأرضهم، فوجدوا أنفسهم عالقين في فلسطين التاريخية، يواجهون ظلماً مزدوجاً. من جهة هم معزولون عن محيطهم العربي بحكم الاحتلال، والجوازات التي يحملونها قسراً، ومن الأخرى يتعرّضون يوميّاً لعمليّات الطمس والتهميش داخل بلدهم من جرّاء سياسة الاحتلال الإسرائيلي.
اليوم أصبح المشاهد العربي أكثر تآلفاً مع نبرة إيليا سليمان الساخرة، ونظرته التشريحية القاسية للواقع الفلسطيني. واقعُ لم يُتَناول قبلاً إلّا بالأسلوب الخطابي واللغة النضالية العاطفيّة. لا شك في أنَّ هذا الواقع الفلسطيني الجديد هو الذي جعل «الزمن

تآلف المُشاهد العربي مع نظرته القاسية إلى الواقع

الباقي» بمنأىً عن تهمة الخطاب الملتبس التي واجهها «سجل اختفاء»، رغم أنّ سليمان يذهب هنا في السخرية والنقد الذاتي أبعد مما فعله في أيٍّ من أعماله السابقة. لعلّ انحسار سوء الفهم بين السينمائي الإشكالي وجمهوره العربي، كان أيضاً من نتائج الاعتراف والتكريس اللذين حققهما سليمان على الساحة العالميّة ـــــ علماً بأنّ رصيده لا يتجاوز ثلاثة أفلام روائية.
وفي الربيع الماضي، أصدر إيليا سليمان تكذيباً قطعياً للشائعات التي تناقلتها بعض الصحف، قبيل «مهرجان كان» الأخير، بأنّ «الزمن الباقي» سيدخل المسابقة الرسمية بوصفه «فيلماً إسرائيلياً»، مموّلاً من «الصندوق القومي الإسرائيلي للسينما». أكّد السينمائي يومذاك، أنَّه فخور لأن ميزانية شريطه «ليس فيها سنت واحد من التمويل الإسرائيلي». وعبّر عن مرارته لأن بعض النقاد العرب تلقّفوا تلك الشائعات، وكرّروها من دون تثبّت. قال: «هذه حالنا دوماً بوصفنا فلسطينيين يعيشون داخل إسرائيل. هناك جهات متعددة تسعى إلى طمس هويتنا، على نحو مقصود حيناً، وبفعل السذاجة وقلة النضج أحياناً أخرى. والغريب أن أقسى الانتقادات تأتي دوماً من النقاد العرب». لكنّ المرارة سرعان ما تراجعت، لتفسح المجال أمام روح الفكاهة الساخرة، حيث يضيف إيليا سليمان: «الوضع الذي نخضع له نحن الفلسطينيين ساخن على الدوام مثل «السونا». ميزة «السونا» أننا نخرج منها بصحة أفضل، ولياقة أكبر!».