الحكايات الشخصية معبراً إلى الكتابةالقاهرة ـــ محمد خير
هكذا يفتتح الشاعر علاء خالد روايته الأولى: «عاد إبراهيم الجد الكبير لعائلة أمي، من رحلته الطويلة في الصحراء، التي امتدت لعشر سنوات. فاجأته في طريق عودته، على الحدود، مجموعة من قطاع الطرق، جعلوا المسافة بينه وبين العائلة تزداد بعداً في عينيه». في الأسطر القليلة اللاحقة، يتخلى الجد للصوص عن الثروة التي جمعها من تجارة الأغنام، يقترب من بيت العائلة في الليل، فتفتح له جارية حبشية ترفع في وجهه مصباح الزيت كي تراه. «تركها لبرهة في عمائها، ومن دون أن ينبس بكلمة، حتى يستجمع شجاعته ليستقبل بها رائحة البيت التي هبت حثيثاً على وجهه: أنا سيدك إبراهيم يا بت... مش عارفاني؟».
بداية تشبه الكثير من الحواديت الأسطورية في العائلة العربية: الجد المؤسس الذي جمع ثروة وأضاعها بمصادفة أو سوء حظ. المفارقة أنّ علاء خالد ــــ الصوت النثري المكرّس ــــ يستهل البداية بحكايات لا تبدو أسطورية. هي وإن حمل غلافها اسم رواية، لكنّها لا تبدو كذلك. مؤسس مجلة «أمكنة» يحكي عن الأمكنة التي تخصه بالجغرافيا (الإسكندرية)، وبالتاريخ عائداً إلى أوائل القرن العشرين. حكايات متفرقة يجمعها النسب العائلي، ولغة عذبة توسطت النثر والسرد، وقصص حرص المؤلف على توثيقها: «جاءت جدتي للعيش معنا، في بيت عائلة أمي الكائن بحي بولكلي، قبل ميلادي بعامين، وبعد وفاة أمها عام 1958». لو زدنا العامين إلى التاريخ المذكور نصبح في عام 1960، وهو تاريخ ميلاد المؤلف. أي إننا لسنا في صدد أدنى محاولة للفصل بين الراوي والكاتب نفسه. نحن نقرأ تاريخ عائلة تحت غلاف رواية لا في جسد رواية.
إنّه حكي وتطهر، بغية التخلص من «ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر». والعبارة الطويلة السابقة هي عنوان العمل الذي صدر عن «دار الشروق» مفجراً أسئلة جديدة عن الجنس الأدبي، ليس فقط لأنه تخطى أرض القصيدة، متوقفاً قبل حدود الحبكة الروائية، بل لأن الكتاب يأتي مواكباً لصدور عدد آخر من الأعمال الأدبية، جميعها حمل صيغة رواية، لكنها تفاوتت في اتباع شروط ذلك الفن الأدبي. ما يجمع تلك الأعمال حقاً هو اتكاؤها شبه الكامل على السيرة الذاتية والعائلية، ما جعلها أقرب لما اصطلح على تسميته «سيرواية» أو «سيروائية».
هكذا يمكن تأمل نصّ «بيت العائلة» الذي كتبته سامية سراج الدين، وصدر متزامناً مع رواية علاء خالد، عن الناشر نفسه. للدقة، فإننا هنا أمام الترجمة العربية للرواية التي كُتبت وصدرت بالإنكليزية. اللغة الأجنبية هنا لا يتوقف تأثيرها عند الأسلوب، بل يمتد إلى متن الحكي. تشرح المؤلفة لقرائها مثلاً معنى عيد الأضحى. وبدا أن أزمة الكاتبة ــــ سليلة الباشوات والأسرة الوفدية العريقة ــــ على قدر الصدق الذي أفصحت عنه الأحداث. العائلة الغنية التي شاركت في الحكم ومثّلت جزءاً أصيلاً من مصر الأربعينيات، بدا أن تاريخها تحول إلى «نيغاتيف» من الشعور العام للمصريين تجاه ثورة يوليو. فالثورة التي عنت للمصريين طرد الاستعمار، وخلع الملك، ومجانية التعليم، والنهضة القومية، كانت تعني للمؤلفة وعائلتها فرض الحراسة وتحديد الملكية والتأميم. لذا، ليس غريباً أن رحلت الكاتبة وأقاربها إلى الخارج.

السيادة لضمير المتكلم بما يضفيه من حميمية، والسرد تصاعدي يتحرك إلى الأمام
السيرة الذاتية العائلية التي تحكيها المؤلفة ــــ تحت مسمى رواية ــــ لا تتصف باللغة الشفافة التي نقع عليها في رواية علاء خالد، لكنها من حيث الحبكة والتقنية تبدو «أكثر روائية» لو جاز التعبير. بالقرب من ذلك، نجد أن إبراهيم البجلاتي في روايته «سيندروم» (الدار) يخطو خطوة إضافية: فهو يضيف إلى أشخاص «الرواية» أسماء شخصيات واقعية بعضهم نشطاء ثقافيون ويساريون شبان، هم أصدقاؤه في الحياة، ولم يتوانَ عن استضافتهم في الخيال.
هل يكفي كون الروايات الثلاث أعمالاً أولى لكتابها، كي نفسّر اندماجها التام بسيرة أصحابها؟ لا تبدو الكتابة في الأعمال الثلاثة وليدة «استسهال»، لكنها أقرب إلى البوح، بوح لم تشغله تقنيات الرواية كثيراً. السيادة هنا لضمير المتكلم بما يضفيه من حميمية، والسرد تصاعدي يتحرك في المستقبل إلى الأمام. قد يعود للخلف لكن كفلاش باك لا يلبث أن يتقدم من جديد. ربما هذا ما يميزها في التقنية عن أعمال أخرى لامست السيرة، لكن أصحابها يمتلكون خبرة قصصية وروائية.
على رغم أنّ أحمد صبري أبو الفتوح يحكي تاريخ عائلته في «ملحمة السراسوة» (دار ميريت)، إلا أننا نقرأ لغة تنقلت برشاقة مراراً بين ضميري المتكلم والغائب، متحركة في الزمن صعوداً وهبوطاً. بينما يلتقط محمد المنسي قنديل في جديده «يوم غائم في البر الغربي» (الشروق) لحظة زمنية أخرى، تلي لحظة السراسوة بقرن من الزمان: مصر في مطلع القرن العشرين من خلال عائشة الفتاة الهاربة من عائلتها في الصعيد إلى مصير مجهول. هي رواية تمشي على الممر التاريخي الذي مهده نجاح رواية «عزازيل» العام الماضي، فهل تُعد العودة إلى الرواية التاريخية تنويعاً آخر على نغمة السيرة (سيرة الشخص/ الأسرة/ الوطن)، أم أنّ العبرة ليست في ما تحكي، بل في كيف تحكي؟