تجار الحروب الإعلامية ما زالوا حتى اليوم ينفخون في نار الخرطوم لتحويلها إلى «داحس وغبراء» ترهن بأحقادها الأجيال القادمة
الرباط ــ ياسين عدنان
الإعلام سلاح ذو حدين. قد يصير قاتلاً حين يستخدمه من لا يقدِّر مزالقه. لذا حين نتعامل معه بانتهازية شعبوية، نجد أنفسنا مستعدين لتقديم التنازلات المهنية للاستجابة للجماهير لا كأفراد بل كحشود. هكذا، ينخرط الإعلام في التجييش ليجد نفسه وسط معمعة قد نعرف متى تبدأ، لكن لا نعرف أين تنتهي. هذا ما حصل لفضائيات مصرية تعاملت مع مباراة مصر ضد الجزائر بحماسة زائدة، فانخرطت في تجييش المصريين. طبعاً لا بد للمعركة من عتاد. وعتاد الإعلام المصري كان المعجم الحربي الذي يلجأ إليه المعلقون الرياضيون على سبيل الاستعارة. هكذا طغت الاستعارة الحربية على الإعلام وخطابه، وتعامل المصريون مع هذا «النزال» الكروي كما لو كانت معركة «حياة أو موت».
ولأنّ لكل حرب قادة، فقد تألق في «حرب الجزائر»، تحديداً في موقعة الخرطوم، «الجنرال» عمرو أديب صاحب الدعاء الشهير «يا رب نكِّد على الجزائريين». «الرقيب أول» أحمد موسى هو الآخر أبلى البلاء الحسن، وخصوصاً حين دعا مباشرة على هواء برنامج «القاهرة اليوم» إلى إيذاء الجزائريين ما لم تؤمَّن حماية للمصريين في الخرطوم، ثم توالت التصريحات النارية لفضائيات مصرية أخرى. كان طبيعياً في ظل هذا التجييش أن تقع حوادث عنف مُدانة تورَّط فيها «هوليغانز» جزائريون في الخرطوم وسط تهويل إعلامي يؤجج مشاعر العداء لدى شعبين كانا ويجب أن يظلا شقيقين.
وبما أنّ الجزائريين لا يملكون «ترسانةً» بقوة الترسانة الفضائية المصرية، انتبهت الصحافة في الجزائر إلى حاجة الجمهور بمعناه الغوغائي إلى صوت، فانتهزت الفرصة وحاولت ملء الفراغ لاعتبارات «وطنية» ربما، لكن أيضاً، وأساساً، بهدف رفع أرقام المبيع. هكذا انخرطت «الشروق» و«الخبر» و«الجزائر نيوز» وكبريات الصحف الجزائرية في المعركة. طبعاً في حالات الدفاع المستميت عن النفس ضمن معركة غير متكافئة، تسود الشتائم والكلمات النابية. وفي هذا السياق، ستنشر «الجزائر نيوز» تركيباً صادماً لصورة زفاف جارحة ظهر فيها مدرّب منتخب الجزائر رابح سعدان في إهاب العريس ومدرّب المنتخب المصري حسن شحاتة في ثوب العروس. وحين سألنا احميدة عياشي مدير «الجزائر نيوز» عن سبب نشر الصورة، أجاب أنّ أحد شباب الجريدة اقترح الصورة بعدما وجدها طريفة ولم يكن يتصور أنها ستثير هذه الضجة. طبعاً، ليست الحجة بمقنعة، ولا تلك الشتائم التي كالتها فضائيات مصرية للشعب الجزائري.

طغت الاستعارة الحربية على الإعلام وخطابه ولغته
الشيء الوحيد المُقنع أن إعلامنا العربي يحتاج إلى تأهيل مهني وتأطير قانوني، وإعادة نظر في وظيفة الإعلام. أن تُزايد وسائل الإعلام التقليدية على وسائل التعبير الإلكترونية في شعبويتها، فهذا ما يجب الاحتياط منه. لأننا إذا تعاملنا مع الفضائيات والصحف كما نتعامل مع مفرقعات الأعياد، وتركناها تنفجر بين أيدي من يريدون دغدغة المشاعر وإثارة النعرات بهدف رفع المبيع ولو على حساب المهنة، فعلينا في هذه الحالة أن نتوقع الأسوأ. لأن الحرب الإعلامية قد تتحول من مجرد لغة استعارية إلى حرب حقيقية.
هل نحتاج اليوم إلى هيئة حكماء؟ مجلس عربي للإعلام يحتكم إلى معايير المهنية والمسؤولية؟ الأكيد أننا نحتاج إلى حكماء يتدخلون لتغليب الاستراتيجي على الظرفي العابر. أصوات حكيمة تفضح فضائياتنا المتخصصة في تسوُّل المُشاهَدَة بأخبار الموت والكوارث والحروب، وتفتعل المعارك حين تخذلها حروب الواقع. أصوات تُسائل الفضائيات التي بدأت تتخصص في تغذية النعرات بعدما عجزت عن خلق فرجة تحترم ذكاء المشاهد. يجب فضح تجار الحروب الإعلامية الذين ما زالوا ينفخون في نار الخرطوم لتحويلها إلى «داحس وغبراء» ترهن بأحقادها أكثر من جيل قادم.
برافو عمرو أديب. لقد انتصرت. ربما كنت المنتصر الوحيد في هذه المعركة التي خسرناها جميعاً.