عودة إلى عبقري الفن السابع الذي تختصر أفلامه مأساة الإنسان في مجتمع يتهيّأ لدخول قرن جديد، هو قرن كل الثورات
بيسان طي
يوم اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، كان فاروق سعد، أستاذ الحقوق والمسرح، منهمكاً في أبحاثه، يغوص في شؤون خيال الظل، ويعدّ الكتب عن فنانين كبار. كان شارلي شابلن (1889 ـــــ 1977) شاغله. هكذا، أعدّ مخطوطاً كبيراً عن «عبقري السينما الصامتة» وهيّأه لإرساله إلى المطبعة. لكنّ الحرب أطاحت المشروع... أو كادت. وحين احتُل منزل سعد، وضع المحتلون أيديهم على مكتبته، وضاع المخطوط. ستمرُّ سنوات قبل أن يعثر سعد على المخطوط تحت الركام، ليصدره أخيراً في كتاب حمل عنوان «شارلي شابلن... المضحك المبكي» (مكتبة الشرق ـــــ باريس). في هذا العمل، جنح سعد نحو العمل الأرشيفي ليؤرخ حياة الفنان الشهير، من الولادة حتى الوفاة. وهو إذ يسرد حياة شابلن، إنما يؤرخ أيضاً لمرحلة مهمة من تاريخ البشرية ملأى بالتحولات الاجتماعية، عايشها الفنان وانتقدها من خلال أعماله. هو المولود في بريطانيا، سيعيش في الولايات المتحدة التي كانت تستعدّ لاحتلال مكانة إمبرطوريّتين في عصر الأفول، هما فرنسا وبريطانيا. يرى المؤلّف أنّ أفلام شابلن تلخّص مأساة إنسان في مجتمع يحاول أن يودِّع القرن التاسع عشر ليندمج في القرن العشرين، لذا يتوقّف عند محطات وأحداث قلّما اهتمت بها إنتاجات المكتبة العربية.
قاوم السينما الناطقة لأنها تقتل الشعر
نستعيد في جزء من كتاب فاروق سعد ما نعرفه من سيرة «شارلو»: لم تتجاوز دراسته المرحلة الابتدائية، لكنّه ثقّف نفسه بقراءة مختلف أنواع الكتب. كان في الخامسة حين صعد أوّل مرة على خشبة المسرح. معلمته الأولى هي والدته التي كانت تتمتع بموهبة فذة قادرة على تقليد أي كان، تعرف كيف تلتقط الجانب الكوميدي من أي شخصية، وقد شرحت لولديها شارلي وسيدني أصول الأداء. خلال طفولته ومراهقته، عاش شابلن حياة الفقر والعوز. انفصل والداه وبقي الطفلان مع الأم بعيدين عن الأب حتى تدهورت صحة الأم النفسية ونُقلت إلى مصح. لكنّ الأب لن يعيش طويلاً، إذ توفي حين كان شارلي في العاشرة. بدايات شابلن كانت مع فرقة The Eight Lancashire Lads والدور الأول الذي أدّاه كان دور كلب. شاركت الفرقة في مسرحيات إيمائية على خشبة مسرح «هيبودروم» اللندني، حيث تعرّف شابلن إلى عدد كبير من الممثلين والمهرجين. وقد أراد هو نفسه أن يصير بهلواناً، لكنه خلال التمارين الأولى سقط سقطةً عنيفة أطاحت حلمه هذا.
في 29 كانون الأول (ديسمبر) 1913، وقّع شابلن عقده الأول مع شركة «كيستون» السينمائية التي أسّسها المخرج ماك سينيت، وكان أول فيلم أنجزه هو «كسب العيش» الذي عُرض عام 1914. ويتوقف الكاتب بالتفصيل عند كل فيلم مثَّل فيه شابلن وأخرجه، ويعرض ظروف إنتاجه والرسالة السياسية التي يناقشها، كما يتوقف عند مدى نجاح كل شريط. يروي كيف ولدت شخصية شابلن كما عرفناه، كيف رسم أزياءه، وطلّته التي عُرف بها.
وهنا يدخلنا الكتاب في قراءة تحليلية لأفلامه: من «المهاجر» الذي كان أحد أهم أفلامه، إلى «السيرك» (1928) الذي أنجزه شابلن بعد قراءة «ألف ليلة وليلة». يحكي الشريط قصة رجل يقاوم سوء الحظ ويواجه القدر ببراءة ونبل، وقد امتاز عن أعمال شابلن السابقة بتنظيم مشاهده وحسن تركيبها.
حياة شابلن العاطفية تحتل الكثير من صفحات الكتاب الذي يزخر بالصور من الأفلام والرسوم. وفي 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1940 عُرض فيلم «الديكتاتور» الذي رمز إلى شخصية هتلر، وهو من أبرز أفلام شابلن، ويُعدّ من أبرز إنتاجات السينما العالمية. يتوقف عنده سعد طويلاً، ويتحدث أيضاً عن رفض شابلن للسينما الناطقة التي رأى أنها تهدم فنّ الإيماء «السينما فن تصويري، وجمالها الشعري هو الذي يبقى».