عاش على هامش المؤسسة ولم يكرّم إلا بعد رحيله
قريباً ثلاثة كتب جديدة عن تجربة صاحب «أوراق الغرفة 8». بعد أكثر من ربع قرن على غيابه، ما زال هذا الشاعر المصري حاضراً في وجدان معاصريه، أيقونة المقاومة وصوت سكّان الهامش. يبقى سؤال: من يحقّ له نشر قصائد البدايات التي أقصاها، في حياته، إلى عتمة الأدراج؟

القاهرة ــــ محمد شعير
منذ أن أعلنت «دار الشروق» إصدارها طبعةً جديدةً من الأعمال الكاملة لأمل دنقل (1940 ـــــ 1983) والجدل لم يتوقّف. بدايةً، أعلن أنس دنقل الشقيق الأصغر لصاحب «أوراق الغرفة 8» نيّته أن يتضمّن الديوان الجديد الأعمال «المجهولة» لدنقل. وهذه الأعمال تشمل قصائد الشاعر في نهاية الخمسينيات وبدايات الستينيات ـــــ قبل صدور باكورته «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» ـــــ ولم تنشر في ديوان أو في أي مطبوعة. كذلك فإنّ الشاعر رفعت سلام أبدى استعداده لتقديم هذه الأعمال التي يمتلك نسخةً منها للدار، بل عرض عليها طباعة الديوان الذي يحمل عنوان «العيون الخضر».
الناقدة وزوجة الشاعر عبلة الرويني التي تحتفظ بكل أوراق الراحل ومخطوطاته، أكّدت أنّه ليس هناك ديوان تركه أمل، بل مجموعة من قصائد البدايات (16) رفض أمل نشرها في حياته. وأضافت: «هذه القصائد سبقت تاريخياً ديوان «مقتل القمر» الذي كان أمل غير راضٍ عن قصائده. والدليل أنه نشره بعد «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، واستبعد منه 16 قصيدة. أيّ ديوان هو جزء من تصوّر الشاعر لتجربته، وليس مجرد تجميع قصائد». وأبدت الرويني دهشتها: «ما يحدث هو معركة بالأسلحة الفاسدة، لأنّ رفعت سلام حصل في التسعينيات على نسخة من القصائد لدراستها فصوّرها خلسةً، ثم اتفق على نشرها في 16 حلقة، مع جريدة «صوت الكويت» التي توقفت لاحقاً». وتضيف: «رفعتُ دعوى ضد الجريدة التي توقفت بعدما نشرت قصيدتين بتقديم سلام». القضاء حكم بأن تدفع الجريدة الكويتية تعويضاً للرويني التي رفضت استكمال القضية. تقول «وهذا ينفي ما يردّده سلام عن أنني رفضت النشر طمعاً بالمال». الطريف في الأمر أن المقدمة التي كتبها سلام لتنشر يومذاك مع القصائد، تضمنت نقداً لدنقل، إذ يصفه بأنّه «رومانسي ساذج»، معتبراً أن القصائد «ساذجة ومرتبكة». لماذا سعى إلى نشرها إذاً؟
أعماله صدرت في بيروت، ولم تنشر في القاهرة إلا بعد أن أطمأنت المؤسّسة إلى رحيله
من جهته، أكّد أنس دنقل أنه وقّع عقداً لنشر الأعمال الكاملة فقط، وكان يرغب في نشر قصائد البدايات التي يمتلك بعضاً منها، بعدما تركها أمل في قريته القلعة في الصعيد، قبل هجرته إلى القاهرة. لكنه فوجئ برفض عبلة الرويني إعطاءه ما في حوزتها. وهو يعتقد أنّ القصائد التي تركها شقيقه لا تنتمي إلى البدايات: «إنّها قصائد ناضجة ومكتملة كتبها أمل عندما كان في العشرين». ويرى أن رفض الرويني للنشر وخلافها مع رفعت سلام يعودان إلى أسباب مادية. أما الرويني فتؤكّد أنّها لا تحتكر هذه القصائد: «لدى جابر عصفور نسخة منها. كذلك الناقد سيد البحراوي استخدمها خلال إعداده كتاب «البحث عن لؤلؤة المستحيل». وتستغرب الاتهامات الموجّهة إليها: «ظلت القصائد أكثر من 20 عاماً مع أمل قبل رحيله، وظلّ رافضاً نشرها. ولا أحد يملك حقّ نشرها بعد رحيله». وأضافت: «أملك هذه القصائد منذ زمن، ولو أنّني أبحث عن الربح المادي لكنتُ بعتها. ولكن أمل ليس قابلاً للبيع والشراء».
صنع دنقل أسطورته الخاصة بوصفه أحد الذين وضعوا أنفسهم في موقع الهامشي المتمرد، الخارج عن المؤسسة الرسمية. ورغم أن قصائده عُدّت أيقونةً للمقاومة، إلا أن نقاداً كثراً يؤكدون انحياز الشاعر إلى مبدأ الحرية. من هنا يظهر خلف نص الرفض والمقاومة والتحريض نصّ آخر يكتب «الرجل الصغير» والهامشي وعلاقته بمدينته وسكانها من المنبوذين والمهمّشين. وربما لهذا لم تتحمل المؤسسة الرسمية في مصر أشعاره. عندما رحل عام 1983، كانت أعماله كلها قد صدرت في بيروت: «دار الآداب» نشرت «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» (1969)، وأصدرت «دار العودة» دواوينه الأخرى: «تعليق على ما حدث» (1971)، «مقتل القمر» (1974)، العهد الآتي» (1975). وحدهما ديواناه الأخيران صدرا في القاهرة: «أوراق الغرفة 8» عن «هيئة الكتاب»، و«أقوال جديدة عن حرب البسوس» عن «دار المستقبل». كانت المؤسّسة قد أطمأنّت إلى رحيله.
وما ينطبق على النشر ينطبق على النقد. قليلة هي الدراسات التي تناولت أشعاره في حياته، أبرزها واحدة للراحل لويس عوض في جريدة «الأهرام» بعنوان «شعراء الرفض». هذه الدراسة كتبها عوض تعليقاً على حجب جائزة الدولة التشجيعية عن دنقل وشعراء جيله، باعتبار أنّ ما يكتبونه ليس شعراً. من هنا هو «جيل مرفوض وجيل رافض أيضاً». وحين كان الشاعر على فراش المرض، كتب يوسف إدريس صرخته الشهيرة «بالله لا ترحل يا أمل، فكلنا فداؤك»، مناشداً الدولة التدخّل لإنقاذ شاعر التمرد. لكنّ وزير الثقافة يومها عبد الحميد رضوان سأل: «من يكون أمل دنقل؟».
اليوم، الوضع مختلف. قصائد أمل دنقل تتصدّر التظاهرات في مصر، وقد أصبح شعره أيقونة. مؤسسات الدولة اهتمّت به وأقامت له احتفالية كبيرة منذ خمس سنوات. وهذا العام قد يشهد صدور ثلاثة كتب عنه: الأول للتشكيلي محيي الدين اللباد بعنوان «تذكارات أمل» يتضمن 120 صورة للشاعر، وديوان «العهد الآتي» كاملاً بخطه، ورسائل له ومنه إلى أدونيس وعبلة الرويني. الكتاب الثاني لجابر عصفور بعنوان «الفرح المختلس» يتضمن 20 دراسة نقدية عن أشعار أمل. كذلك فإنّ أنس دنقل جمع كل الحوارات التي أجراها أمل وسينشرها في كتاب بتقديم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي.