نجوان درويشالساعة الآن 3:00 بتوقيت القدس المحتلة. قبل قليل، كنتُ أتنقّل بين الفضائيات فتوقفت مع شارة بداية برنامج «أرشيفهم وتاريخنا» الذي تعرضه «الجزيرة». يقدّم البرنامج بعض أحداث التاريخ القريب للمنطقة العربية، عبر الأرشيف الأميركي والبريطاني. مادة البرنامج هي مقاطع من وثائق كانت ذات يوم سرية، تتخلله شهادات مسجلة مع باحثين وشخصيات شهدت صنع تلك الأحداث.
تلك الحلقة (فجر 3 تشرين الأول/ أكتوبر) كانت عن «اختطاف الطائرات والسفن» وتحديداً عمليات «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» والقصة المعروفة عن اختطاف الطائرتين وتدميرهما في الأردن، بما في ذلك مرور سريع على ملفّ «أيلول الأسود».
ما العلاقة بين النشاط الفدائي للتنظيمات الفلسطينية وجرائم المافيا؟
ما «يستفز» في البرنامج هو حضور ذلك «الخبير» الإسرائيلي الذي يعلّق أحياناً مع معلقين بريطانيين وألمان وروس. وهو كما تعرّفه «الجزيرة» «خبير في شؤون الإرهاب». وهذه رسالة تمرّر إلى المشاهد العربي تقول له: هذا إسرائيلي من تل أبيب خبير في شؤون الإرهاب أي خبير في الموضوع (الإرهاب) الذي تشاهده الآن. تقديم إسرائيلي بلا تحفّظ على صفته، هو اعتراف بتخصصه، ويقول ضمنياً «خطف الطائرات والسفن» في السبعينيات إرهاب بأثر رجعي. ولا يبدو حضور ناشطين من الجبهة الشعبية، أحدهما ليلى خالد، كافياً لحجب هذه الرسالة.
عند نهاية البرنامج، ذهبت لتناول غرض. وفي أقل من دقيقة، عدتُ لأجد على «الجزيرة» برنامجاً عن الجريمة المنظّمة. هو أيضاً مادة أرشيفية لكن عن المافيا. قائد إحدى عصابات المافيا الإيطالية، يكشف للشرطة عصابة معادية تهرّب المخدرات إلى أميركا، لأنّ تلك العصابة الأخرى قتلت اثنين من أبنائه. بعد ذلك، تقتل العصابة خمسة آخرين من أقاربه رداً على وشايته. نفكّر في «مصادفة» عرض البرنامجين بتتابع. كل من له علاقة بالإنتاج، يعرف معنى التجاور والتتابع بين البرامج والفقرات والمواضيع عموماً. بالتالي، ليس مبالغة وضع علامة استفهام حول الانتقال المباشر من أرشيف «خطف الطائرات والسفن» (اسم الحلقة) والنشاط الفدائي للتنظيمات الفلسطينية، إلى أرشيف جرائم المافيا.
ما إن انتهت الفقرة عن المافيا. وقبل أن ننتهي من تقليب هذه الملاحظة، كانت «الجزيرة» تبث إحدى دعاياتها الجديدة ضد «الحروب» وتنهيها بحكمة أنّ «أفضل ما في الحروب هو إنهاؤها». وكما أنّ مديح السلام في المنطقة العربية أصبح مرادفاً لمديح الهزيمة والاستسلام، نخشى القول إنّ ذم الحروب يمكن أن يتحول إلى نهي عن المطالبة بالحقوق بأي شكل من أشكال النضال العنيف.
عبر ثلاث فقرات متتابعة، في ساعة بث واحدة، تصل رسالة إلى المتلقي تجمع: الجبهة الشعبية وخطف الطائرات، مع المافيا وجرائم القتل وتهريب المخدرات وذم الحروب. لو كانت الرسالة مقصودة من «الجزيرة» فهذا لا يمكن السكوت عنه. وإن كان «مصادفة»، ففضائية بهذا التأثير تقدّم برامجها بلا حساب لما تتركه على الرأي العام، هو أيضاً لا يمكن السكوت عليه!