ربّما كان لسمير قصير نصيبه من تلك الرسائل البيضاء لو لم يُستشهد»... مسؤولة صفحة «حول العلم والعالم» في «النهار» تروي تجربة «الصرف»، وتطرح أسئلتها المريرة
مي ضاهر يعقوب
عندما نزلتُ إلى الطبقة الأرضية من مبنى صحيفة «النهار»، بعد ظهر الجمعة 25 أيلول (سبتمبر) الماضي، بعدما دعاني أحد الحراس لتسلّم بريد مضمون لي، لم أتخيّل أنّني مدعوّة للتوقيع على ورقة صرفي من المؤسسة العزيزة على قلبي. كان موظف «ليبان بوست» مستنداً إلى منبر مدخل المبنى، ومعه كومة رسائل بيضاء ودفتر سميك للتوقيع. كان وجهه مظلماً وعبوسه ينذر بمكروه. سألته: ما هذا؟ أجاب: ما بعرف، كلّفوني وزِّع هذه الرسائل، وهذه رسالتك. وعندما رأيتُ اسم «النهار» ورمز الديك على غلاف الرسالة، أدركتُ أنّ الإدارة اليافعة الجديدة في «النهار» اختارت البريد المضمون هروباً من مواجهة مَن وقعت عليه قرعة الصرف من العمل، لأسباب بعضها كانت تردده علانية، أنّ ثمة عجزاً مالياً ولا مفر من صرف محررين وموظفين قبل نهاية السنة، تتبعها دفعة ثانية مطلع السنة المقبلة. والأسباب المعلنة لاحقاً أنّ الجريدة السبعينية باتت هرِمة، وعملية الانتقال إلى جريدة شابة ستجري عبر إنهاء العقود مع الذين بلغوا سن التقاعد، والذين تراجع إنتاجهم أو يهملون واجباتهم.
وبما أنّني لم أبلغ سنّ التقاعد بعد، ولم أسمع ما يوحي بأنّ الصفحة الأخيرة التي أعدُّها وأكتب فيها مقالاً كل يوم أحد تراجعت إنتاجيتها أو فيها مواد غير صالحة للنشر!
صحيفة لا تحترم عطاءات ناسها، كيف تنقل معاناة شعبها؟
تساءلت: ما الذي حصل لأكون بين المصروفين؟ كل ما أعرفه أنّ هذه الصفحة تحمل عنوان «حول العلم والعالم»، وكنت أجهد يومياً (6 أيام أسبوعياً) لنشر الأخبار المفيدة والمسلية، الكفيلة بوضع الصحيفة في مصاف الجرائد المحترمة التي تثقِّف القارئ وتزيد معلوماته في مجال العلم والاختراعات وأخبار المشاهير.
لم أفهم ما المقصود بتجديد شباب الجريدة. وما هو العرض الذي قدّمته الإدارة اليافعة تنفيذاً لخطة عمل مدروسة في هذا الاتجاه ولم يوافق عليه المصروفون؟ لم تعرض الاستقالة على أحد أو خفض رواتب، أو إقالة الذين يقبضون ولا يعملون، وخصوصاً الذين وُظِّفوا لأسباب سياسية ومصالح انتخابية.
لم يعرض أحد على كبار الكتّاب الذي تلقّوا البريد المضمون، أو هم في طريقهم إلى تلقّيه، أمثال إدمون صعب وإلياس خوري وجورج ناصيف وسحر بعاصيري (وربما سمير قصير لو لم يُستشهد)، ماذا يقترحون لتطوير الصحيفة وتحقيق نهضتها. وهل تألّفت بنود خطة النهضة الشبابية غير تصنيف المتقدمين في السن بضاعةً انتهت صلاحيتها؟ المطران العلامة جورج خضر الذي يكتب في الصفحة الأولى كل سبت، هل يندرج مقاله في باب الفكر الشبابي الذي يبشّر به الجيل الجديد الحاكم في الجريدة العريقة، في ظل غياب الأصيل الذي شمله الهَرَم أيضاً، وابتعد عن مركز القرار بإرادته أو من دون إرادته؟
لا يبدو أنّ العصر الجديد في «النهار» يحترم الخبرة المهنية والمعرفة المختزنة من تجارب العمل على الأرض وبين الناس، والمراس في الكتابة والتحقيق والريبورتاج، ولا أتعاب الموظفين الذين عملوا طويلاً، فينهون عقودهم من دون حفلة تكريم أو كلمة شكر.
إنّ صحيفة لا تحترم عطاءات ناسها لا يمكنها أن تحترم قرّاءها أو تنقل معاناتهم أو تحاسب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتصرخ في وجه الظلم والقهر. وربما لن تحتاج بعد اليوم إلى ديكها الصيّاح الذي تقدم في السنّ، ولا بد من أن يتسلّم قريباً رسالة صرفه بالبريد المضمون!