حسين بن حمزةحين أصدر شربل داغر ديوانه الأول «فتات البياض» (1981) كتب في صفحة الإهداء: «إلى شربل: حتى لا يصير شاعراً». لعلّ الشعر كان نوعاً من التورّط، بحسب ما فكر الشاعر الشاب في باكورته، التي قادته إلى سيرة متشظّية ومتعددة. إذ سرعان ما آلت التساؤلات اللغوية والنصية التي طرحها داغر في بداياته إلى عمل شعري خاص وممارسة ممهورة بتوقيع يخلط بين البحث الشاقّ والكتابة المتفلّتة. مفردة «فتات» المبكرة صارت صفة دائمة لقصيدة لا تُخلص لبنية لغوية واحدة أو فضاء تخييلي ومعجمي محدد، بل تبقى محكومة بالتفتت والتجزؤ والتوالد. ثمة عوالم متضاربة وأطروحات متعددة وأشكال تعبير غير مشروطة لدى صاحب «حاطب ليل» (2001). كأنه يمحو الفواصل والحدود بين الأشكال الأدبية وصولاً إلى تزويج الشكل الأدبي بالأشكال البصرية المتداولة كاللوحة والخط واللقطة المسرحية والسينمائية والكومبيوتر والهاتف الخلوي... إنها أطروحة كاملة تطمح إلى «كتابة متعددة» يتحول فيها النص الشعري إلى مساحة حرة للتأليف والاستثمار بين أنساق وأشكال مختلفة.
عوالم متضاربة وأشكال تعبير غير مشروطة
شربل داغر الذي نلتقيه الليلة في إحدى حانات الحمرا، نقرأ شعره فلا نجد فيه تصاعداً طبيعياً للمعنى. المعنى ليس معاقاً بالطبع، ولكن المكوّنات والعناصر المقترحة في هذا الشعر تكترث بنفسها ومساحات حضورها أكثر من انخراطها في مجرى واحد يؤسّس لمعنى يجري وينمو بلا انقطاع. شعرٌ بهذه الصفات والمكوّنات سهَّل على صاحبه أن يحوّل الأشكال المتعددة الحاضرة فيه إلى هويات كتابية منفصلة، فكتب في الجماليات والترجمة والرواية... إلى حد أنّ هذه الهويات راحت تزاحم داغر على شعره. هو نفسه لم يعد قادراً على التنكر لها. نعرف أن صاحب «لا تبحث عن معنى لعله يلقاك» بدأ شاعراً واستمر شاعراً، لكنه حفر بالمقدار نفسه تقريباً في أنواع كتابية أخرى، فأنجز أبحاثاً وسرديات عديدة نذكر منها: «الحروفية العربية: فن وهوية» و«الفن الإسلامي في المصادر العربية» و«اللوحة العربية بين سياق وأفق» و«التقاليد الشفوية العربية»... وأخيراً رواية بعنوان «وصية هابيل». الانشغال بالبحث والكتابة في الجماليات وغيرها جعل هوية الشاعر لا تُرى إلا بجوار هويات أخرى. الخطر في هذا التجاور أنه قد يخفف من حضور الشاعر نفسه في مجتمع الشعراء المكتفين بكتابة الشعر فقط. بهذا المعنى، يمكن فهم الغياب النسبي لصاحب «غيري بصفة كوني» (2003) عن المشهد الشعري، فهو يحضر قليلاً ثم يذهب إلى مناطق كتابية أخرى. الشعر ليس «ترانزيت» (2009) كما عنون داغر ديوانه الأخير. لكن العنوان يحمل مغزىً مماثلاً. ألم يقل منذ البداية إنه لا يريد أن يصبح شاعراً... فقط؟
■ ■ ■
الشاعر ضيف حانة «دينمو» (الحمرا/ بيروت) عند التاسعة والنصف من مساء اليوم ــ للاستعلام: 03/819397