معرض للفنّان البرازيلي في «غاليري أليس مغبغب»نوال العلي
يكفي أن تفتح موقع التشكيلي البرازيلي خواريز ماتشادو (1941) لتتوقع فنّاناً عبقرياً على الطريقة الداليّة في الظهور: شارب طويل ومثني من الأطراف، ثياب مرحة وبنطلون أبيض واسع مع قبعة على طراز اللباس في الأربعينيات. أمّا النظرة فلا تخلو من استفزاز وطرافة أيضاً. والوقفة لراقص يوشك البدء بحركة تانغو «سكسي» على الطريقة اللاتينية.
لكن لا، ماتشادو ليس سريالياً أبداً، ولا علاقة له بعوالم سلفادور دالي. فنّه يحمل سماته الخاصة. هل يجوز أن نسمّيها شكلاً من الواقعيّة السحرية في الرسم؟ إن كان مشهد الرقص يُنقل بواقعية هنا، فإنّ التحليق فوق رؤوس العازفين يبدو سحرياً جداً. كل شيء هنا واقعي فوق العادة. ولوحات ماتشادو أخذت من جنون دالي فقط اكتظاظ العمل بالأشياء والتفصيلات، حقاً هناك الكثير لتتأملهأعمال ماتشادو التشكيليّة تعرض حالياً في «غاليري أليس مغبغب» (الأشرفية/ بيروت) حتى نهاية الشهر الحالي. لن يكون مستغرباً أن تحمل مجموعة لوحاته كلمة «تانغو» عنواناً عريضاً لها. هذا الموضوع الذي تفرّد به ماتشادو، استهوى الكثير من مشاهير عالم الرسم، ومن أشهر اللوحات التي استعملته ثيمةً لها «التانغو بالأحمر» لميشا لين، و«راقصا التانغو» لبيل برور و«تانغو» لجنيفر غولدبرغر.
تشترك مجموعة اللوحات هذه بلحظة خاصة جداً في خضم رقصة تانغو بين اثنين غالباً ما يرسمهما الفنان متشابهين إلى حد كبير. إذ تكاد المرأة تحمل وجه الرجل نفسه. وهو كذلك، يحرص على كشف قوة عضلات الفخذين والبطن البارز قليلاً، وربلة الساق المشدودة، والجذع المندفع للأعلى في حالة نشوة تؤكدها خطوط ماتشادو الشبقة وألوانه القويّة. هذا الوصف ينطبق على جسد الرجل مثلما هو جسد الشريكة في هذا الإيقاع اللوني الذي تظهر منه الجذور البرازيلية للفنان والكوبية والأفريقية لإيقاع التانغو نفسه. وهو كذلك وصف ينطبق كثيراً على منحوتات ماتشادو. الأجساد مرسومة حقاً كأنّها منحوتة تماماً: خطوط الظهر والثنيات كلها ظاهرة من وجهة نظر الإزميل وليس الريشة فقط.
الملابس التي اختارها ماتشادو لموديلاته لصيقة بتفاصيل أجسامهم، معتدّة بامتلائها القليل والرشيق في الوقت نفسه وفي اكتنازها الشهواني المستعد للاهتزاز. على الأقل هذا ما تمليه علينا العيون المرسومة بكثافة. والألوان البرتقالية والحمراء الداكنة والشعر المعقوص والداكن. أمّا عازف البيانو وأحياناً الأكورديون الموجود في غالبية اللوحات إلى جانب الراقصين، فربما يلعب هنا دور ماتشادو نفسه، كشاهد على تلك الثنائيات. شاهدٌ ظلّت الروح اللاتينية تملي على ريشته ضرباتها، رغم أنه غادر البرازيل ليعيش في فرنسا منذ منتصف الثمانينيات. تنقل ماتشادو (1941) بين العواصم الأوروبية والولايات المتحدة، واشتغل في الرسم والسينوغرافيا والتجهيز والنحت والحفر، وحصل على جوائز لا تحصى منذ بداياته في الستينيات. لكن الرسم «متعتي العظيمة. لقد منحني هويّة، ومن خلاله بنيت نفسي شيئاً فشيئاً. بالرسم صنعت عظامي، باللون كوّنت لحمي. أما دمي فقد صغته بعواطفي».
هذه العواطف القويّة تظهر فعلاً في اللوحة. لننظر إلى عمل «تانغو في صندوق» وربما هو أجمل لوحات هذه المجموعة لما فيه من قدرة مذهلة على تحويل الضيق إلى فراغ. هنا، يظهر الراقصان في قفزة رائعة في صندوق صغير، المرأة بثوب أسود قصير جداً والرجل ببذلة بيضاء، وفي الخلف يظهر عازف الأكورديون متجلياً عنقه الممتد للأعلى، كأنه لا يرى أمامه، يكشف حالة تلذذ بالموسيقى.

هي بالأسود القصير وهو ببذلة بيضاء، التقطهما بـ«حسيّة تصويريّة» عند لحظة الحريّة
العيون لن تصدق هذه الحركة والملابس الطائرة والصخب الظاهر ضمن ألوان دافئة وهادئة جداً، ومظللة في غالبيتها لتعكس ضيق الصندوق. يريد ماتشادو أن يقول: نعم التانغو يمنحك كل هذا وأكثر. تضمّ المجموعة لوحات مثل «تانغو إلى الأبد» (زيت على قماش ــــ 101 × 74 سنتم) و«تانغو في الهواء» (باستيل على ورق ــــ 80 × 115 سنتم) و«تانغو ليلة سبت» (زيت على قماش ــــ 97 × 130 سنتم). لديه أيضاً لوحة «المرأة بالثوب البرتقالي» التي تذكرنا بعمل الأميركي بيل برور «المرأة في الثوب الذهبي». لنقل إنّ هذه المقارنة تكشف أكثر عن الروح اللاتينية والواقعية السحرية التي نقصدها هنا في لوحات ماتشادو، رغم أنّ الاثنين صاحبا لمسة «حسيّة تصويرية» sensual figurative، وكلاهما يعتمد على جسد المرأة ليروي قصة اللوحة، فيكون هذا الجسد هو مصدر الضوء الوحيد للمشهد... متحكماً فيه بالضوء والظلال.
الرقص والجمال، هذه المرأة وهذا الرجل المتكرران كأنهما Muse، أو آلهة ملهمة تطارد الفنان ليمنحهما هذه الحالة الإيروتيكية المرسومة بألوان ترابية، تظهرهما غالباً في حالة حسيّة وداعية للمتلقي أيضاً. الحسيّة هنا ليست بهدف الإثارة، بل بمعنى أن تكون جميلاً في لحظة حرة وطبيعية جداً. لا شعورياً تتحرك الأقدام ويطقطق الكعب على الأرض لدى مشاهدة عرض التانغو مرسوماً بكل هذه الحيوية.


حتى 31 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي ــــ «غاليري أليس مغبغب» (الأشرفية) ــــ للاستعلام: 03/210424
www.alicemogabgab.com
www.jmachado.com