نوبل للآداب 2009 للكاتبة الألمانيّة ــ الرومانيّة

فوزها بأرفع الجوائز الأدبيّة فاجأ الجميع تقريباً. هذا العام تحيّي الأكاديميّة السويديّة أدباً «صوّر الحياة اليوميّة في ظل ديكتاتوريّة متخثّرة». كابوس تشاوشيسكو والسيكوريتات ما زال حاضراً في وجدان الروائيّة الأقلويّة، والشاعرة التي تكتب لترمّم ذاتها المتصدّعة

بيار أبي صعب
ربّما كانت هيرتا مولر، صاحبة رواية «الاستدعاء»، تأمل الفوز بـ«جائزة الكتاب الألماني» التي تمنحها سنويّاً «مؤسسة الاتحاد الألماني لتسويق الكتاب»، لأفضل عمل أدبي صادر بلغة غوته (في ألمانيا والنمسا وسويسرا). كتابها الجديد Atemschauel أو «أعرِفُ أنّك ستعود» وصل إلى التصفية النهائية، وتربّع على لائحة تضم ستة أعمال جديدة. ولم يبقَ سوى أيّام قليلة على القرار الحاسم (12 ت1/ أكتوبر الحالي) الذي سيحدّد إذا كان عليها الاكتفاء بالألفي والخمسمئة يورو، أو إذا كانت ستفوز بالجائزة الكبرى (25 ألف يورو) وتتسلّمها في احتفال مهيب يوم افتتاح «معرض فرانكفورت». لكنها لن تنتظر تلك الجائزة بعد الآن: لقد اختارتها الأكاديميّة السويديّة الشهيرة ظهر أمس، لتكون صاحبة جائزة أكبر وأرفع وأكثر انعكاساً على انتشار كتبها العشرين في مجال الرواية والقصّة والشعر والنظريّة والصحافة. نقصد طبعاً «نوبل للآداب» 2009 التي كافأتها، حسب إعلان الجائزة، على نجاحها «عبر كثافة الشعر، وصراحة النثر، في إعادة تشكيل مشاهد الهجران والاقتلاع والتخلّي».
وإذا كانت تجربة البريطانيّة دوريس ليسينغ (نوبل، 2007) قد اقترنت بالخيارات اليساريّة والنبرة النقديّة والنسويّة، وقبلها وقفت النمساويّة يلفريد يلينك (نوبل، 2004) لتفضح بفجاجة المؤسسة الذكوريّة والقمعيّة، فإن مولر لا تبتعد عن تلك الخيارات الراديكاليّة. لكن هناك فارق أساسي، هو أنّ زميلتيها تمرّدتا في «العالم الحرّ» وعليه، فيما هي ابنة التجربة الشيوعيّة، وشاهدة على التوتاليتاريّة في رومانيا تشاوشيسكو. وهذا الجرح الأصلي هو المنبع الذي يكاد يغذّي عالمها الأدبي بأكمله. لنبدأ من Atemschauel أحدث إصداراتها، وهو يكاد يختصر أدبها: في نهاية الحرب، حالة رعب تحاصر الأقليّة الألمانيّة في رومانيا التي تنتمي إليها الكاتبة، ومنها ينحدر ذلك الشاب الذي يأخذه الروس إلى أحد معسكرات الاعتقال... آخر جملة سمعها من جدّته، «أعرِفُ أنك ستعود»، هي التعويذة التي تبقيه على قيد الحياة. من خلال حياته اليوميّة في معسكر روسي، يختصر بطلها معاناة جماعة إثنية وثقافيّة خاصة في ترانسيلفانيا: هكذا تضيء مولر على فصل منسيّ في تاريخ أوروبا الحديث.
قصّة هيرتا مولر مع الكتابة، هي أولاً قصّة غربة عن العالم الخارجي، عن البيئة والمحيط والوطن، وانسلاخ عن المكان، لتصبح اللغة هي الموطن الحقيقي. اللغة الأم الحميمة، في مواجهة اللغة

غربة عن العالم الخارجي، وانسلاخ عن المكان لتصبح اللغة هي الموطن الحقيقي

الرسميّة المفروضة، لغة الآخر. (نحن أمام إشكاليّة تعرفها المجتمعات العربيّة وتعيشها بعنف وألم أيضاً، في أكثر الأحيان). والكتابة قصّة هرب دائم إلى الذات التي تفلت باستمرار، واغتراب دائم لا تمكن معالجته إلا بإعادة امتلاك العالم عبر الكتابة. الكتابة هنا ـــــ في قصصها وكولاجاتها الشعريّة ورواياتها ـــــ هي لملمة الذات المفتتة، ومحاولة ترميم العالم المتصدّع في أعماقها، من خلال شعريّة قائمة على المجاز. تكتب المنفى والاقتلاع والرحيل، الإحساس الأقلّوي بالقمع والاضطهاد والاغتراب، وطأة السلطة والاستخبارات والديكتاتوريّة، تشاوشيسكو والشرطة السريّة الفظيعة في عهده: «سيكوريتات».
«رواياتها ترسم بدقّة تفصيليّة صور الحياة اليوميّة في ظلّ ديكتاتوريّة متخثّرة» يلاحظ بيان الأكاديميّة السويديّة الذي يراها كاتبة «المحرومين»، فيما تتحدّث موسوعة «يونيفرسالس» بشأن أدبها عن «جماليّات المقاومة». «الإنسان طائر تدرج كبير على الأرض» (1986)، «فبراير الماضي» (1987)، عملان يستوحيان السيرة المباشرة في بيئة ريفيّة مسكونة بهاجس الفقد، والخوف من المجهول. ثم جاء كتابها الأوّل في ألمانيا «السفر برجل واحدة» (1989) ليحكي عن صعوبة التكيّف مع عالم جديد يفلت باستمرار من وافد جديد لا يملك أياً من مفاتيحه أو طقوسه. قد يكون الحب جسراً للعبور، لكن كلمات البلد المهجور لا تصلح للإحاطة بالواقع الجديد. ولا بد من التوقف عند «الاستدعاء» (2001) التي تصوّر تداعيات تلك المرأة التي دسّت نداء استغاثة في جيب السروال الفخم الذي تخيّطه، ومن يومها لم تعد تفعل سوى تلبية استدعاءات ضابط الاستخبارات وإذلاله...
قد يستغرب المرء: اثنان وعشرون عاماً في ألمانيا ولا تزال تكتب عن رومانيا وكوابيسها. ربّما لأن الحاجة إلى الكتابة ولدت لديها تحت الديكتاتوريّة. ربّما لأنّها «تعلّمت الحياة وهي تكتب، لا العكس». من هنا هذه العلاقة الصداميّة مع الرومانيّة، لغة الشعب والحكي والعفويّة والفولكلور، فيما الألمانيّة لغة الثقافة والكتابة. ذات يوم قال لها الكاتب الكبير إميل سيوران إنه لدى وصوله إلى باريس، امتنع عن نطق كلمة رومانيّة واحدة... لكنّه بعدما شاخ عاد يحلم بتلك اللغة المرذولة. هيرتا مولر، أيضاً، أسيرة ماض لن تشفى منه أبداً.

تلك الآلة القمعيّة القائمة على الترهيب والإذلال



أول من أمس، انتقل اسمها فجأة إلى المرتبة الرابعة على موقع المراهنات «لادبروك»، لكن لا أحد اكترث للأمر، إلا مدوّناً واحداً هو Literary Saloon الذي أخذ الأمر على محمل الجدّ. ليس فيليب روث، إذاً، صاحب الحظّ السعيد هذا العام، رغم ما قيل عن التجاهل النوبلي الطويل للأدب الأميركي... ولا اللغة الإسبانية التي أُهملت كثيراً منذ أوكتافيو باث كما تردّد، ولا العرب الذين ما عادوا ينتظرون شيئاً (أدونيس من هنا وآسيا جبّار من هناك)، ولا الكاتب الإسرائيلي آموس أوز، صاحب الخطاب الصهيوني المقزز، لحسن الحظ، بل هيرتا مولر التي ما زالت شهرتها محدودة، رغم المكانة المرموقة التي تحتلّها منذ أكثر من عقد بوصفها واحدة من أبرز وجوه الأدب الألماني الجديد.
تنتمي الكاتبة المولودة في نيتشيدورف عام 1953، إلى جالية الـ Souabes، وهي أقليّة ناطقة بالألمانيّة في محافظة Banat التاريخيّة غرب وجنوب غرب رومانيا. الثورة صادرت أراضي جدّها، وأمّها اقتيدت إلى معسكر أشغال شاقة في الاتحاد السوفياتي. تروي أنه لا أحد كان يتكلّم الرومانيّة في قريتها إلا بعض موظفي الدولة، لذا لم تتعلّمها إلا متأخّرة في الخامسة عشرة، فإذا بها تعيش غربة مضاعفة. تقول سيرتها إنّها في عام 1973 باشرت دراسة الأدب الألماني والروماني في الجامعة، في تيميشوارا. ثم عملت مترجمة في مصنع «تيكنوميتال»، إلى أن طلب إليها ذات يوم أن تتعاون مع الشرطة السريّة فرفضت، ما أدّى إلى صرفها من الخدمة عام 1979. تلك المرحلة كانت الأصعب عليها في رومانيا، إذ تعرّضت لمطاردة الاستخبارات وتضييقاتها واستجواباتها. راحت تعطي دروساً في

كل كتبها تحكي المأساة نفسها
الألمانيّة، وانتمت إلى مجموعة كتّاب معارضين، وكتبت مجموعة قصصيّة بعنوان «حضيض» لم تتمكّن من نشرها إلا في عام 1982، ثم جاءت مجموعتها القصصيّة الثانية بعنوان «تانغو القمع» (1984) لتلفت إليها أنظار النقاد. وذات يوم من عام 1987 حزمت عتادها، وسافرت إلى ألمانيا الغربيّة مع زوجها القاصّ ريتشارد فاغنر. لقد اشترتها الديموقراطيّة الغربيّة من نيكولاي تشاوشيسكو في آخر عهده، ضمن صفقة لـ«إنقاذ» الأقليات الناطقة بالألمانيّة.
كل كتب مولر تحكي المأساة نفسها من زوايا مختلفة: «كيف يعيد الإدراك إنتاج نفسه» (1990)، «الشيطان جالس في المرآة» (1991)، «كان الثعلب قد أصبح الصيّاد» (1992). هنا نقرأ «كل ليل، كل نهار، بل العالم بأسره يتكوّن من الذين يمارسون التعذيب، والذين يلزمون الصمت». قصّة Herztier أو «بلاد الخوخ الأخضر» (1994) تحكي عن قدرة السلطة على الإيذاء المجاني، لمجرّد الإخضاع والقهر. وبعد «الفخ» (1996) جاء «الاستدعاء» (2001) ليحكي كابوس الفرد، المجرّد من أي إمكانات دفاعيّة، في مواجهة الآلة القمعيّة القائمة على الترهيب والإذلال.