«كتاب القلادة» عمل وطني وتحريضي، ليس غريباً على شاعر كردي ناضل بالكلمة وبالبندقية، وهو معروف على نطاق واسع في المكتبة العربيّة

حسين بن حمزة
نادراً ما ينجو كاتب كردي من فكرة أن يُرى داخل الصورة العامة لشعبه. هذا ما نقوله لأنفسنا ونحن نقرأ «كتاب القلادة» (دار الجمل ــــ ترجمة: هيوا عزيز/ مراجعة: محيي الدين زه نكه نه) للشاعر الكردي شيركو بيكه س الذي بات معروفاً في أوساط القراء والكتاب العرب بسبب ترجماته العديدة إلى لغة الضاد. لا نجد في الكتاب قصائد عادية. الشعر قليل هنا وعائم في مكوّنات وفضاءات متعددة. إذا استثنينا بعض السطور الشعرية الصافية التي تَرِدُ في صفحات متباعدة، فإن الكتاب هو رواية أو ملحمة مكتوبة بخيال أدبي غير مشروط بتعريف أو شكلٍ مسبق. شيركو بيكه س شاعر مميز، لكنه ينجز شيئاً مختلفاً عما اعتاد الشعراء كتابته. لقد فعل ذلك في كتابه السابق «الكرسي»، وفعل ما يشبه ذلك في إصدارات أخرى زاوج فيها الشعر مع مناخات وعوالم أسطورية وشعبية ووطنية. بهذا المعنى، يصعب تصنيف «كتاب القلادة»، فهو ليس نصاً مفتوحاً بسبب ضآلة التجريب الأدبي فيه. ثمة مسرح ونثر ومعالم قصصية وروائية في الكتاب، ولكن هذه المواد مجلوبة كي تقوم بوظائف محددة، لا من أجل توليد أطروحة نصية جديدة من تجاورها واحتكاكها معاً.
ينتصر الكتاب للمرأة الكردية من خلال قصة قلادة اشترتها فتاة كردية اسمها أرخوان تَحُول التقاليد والعائلة والمجتمع والدين بينها وبين فرديتها وحريتها. القلادة تروي سيرة الفتاة. نعرف أنها مغرمة بشاب وتعمل مدرّسة للغة الكردية وتكتب الشعر، وأنها محكومة مثل بنات جنسها الكرديات بحكم الذكور المحميين بالقانون الاجتماعي والإجرائي.
يُجري بيكه س القصة على لسان القلادة وغيرها من أدوات الزينة والماكياج الخاصة بالنساء: المشط والمسكارة والأقراط وأحمر الشفاه... في مواجهة الذكور الممثلين بـ: شفرات الحلاقة والخناجر والأحزمة الجلدية والسلاسل وأزرار الزي الكردي التقليدي. الأرجح أن المؤلف وجد حلاً لغوياً لإدارة مواجهة نضالية مكشوفة ومكرورة، فاستعان بالأدوات والرموز مبتكراً صورة مواربة وغير فجة لهذه المواجهة. لا يُنكر بيكه س أنه يدعو إلى تحرير المرأة الكردية وتخليصها من الظلم والبؤس الذي تعيش فيه، ولكنه لا يريد أن يبدو كداعية وصاحب خطاب نضالي مباشر. مع ذلك، لا يبتعد الكتاب مسافة أدبية وتخييلية كافية عن الخطاب السياسي والاجتماعي المناصر للمرأة. اللغة واضحة والمعاني مكشوفة حتى في

تثور صاحبة القلادة وتهرب مع حبيبها
المقاطع الشعرية التي تحتمل التخييل والنأي عن المنطق المطلبي للكتاب، لنقرأ: «جسدكِ خطيئة أبدية محفورة بين نهديكِ/ حَرامُ الكون يقبع بين ساقيكِ/ في ذلك الجسد التأم المرتدون والشياطين وأبو لهب معاً/ جسدك كفرٌ أبدي محفور بين فخذيكِ/ جريمة مصلوبة أبداً وتوبةٌ مبعدةٌ إلى ما وراء الأصوات والألوان/ إلى ما وراء رسالة السماء وخارطة الذكور». الأنوثة والذكورة تتحكمان بالسردية العريضة والتفصيلية للكتاب. المقارنات بين رهافة النساء وجلافة الرجال لا تتوقف. تطالعنا أحياناً عبارات مثل: «المظالم هي الذكورة في الدنيا والآخرة» و«الزرزور امرأة... شامةٌ سوداء في عالم أبيض» و«الكأس قالت: إن لم ترتشفني الأنثى بحرية/ فسأشعر بأني كأسٌ بنصف المذاق»... ويَرِدُ ذكرٌ لأسماء أدّت دوراً مماثلاً لما يقوم به بيكه س: عبد الخالق معروف، الكاتب الكردي الذي استُشهد على أيدي الأصوليين، آلان بوبان/ صاحب كتاب «المرأة والجنس» الذي يتحول إلى شخصية مسرحية في الكتاب الذي ينتهي بتظاهرة نسائية تطرح شعار: «نرفض الوطن الذي منح نفسه للذكور»، ثم تثور صاحبة القلادة على عائلتها التي تقرّر تزويجها فتهرب مع حبيبها.
«كتاب القلادة» كتاب وطني وتحريضي. لعل هذا ليس غريباً على شاعر ملتزم ناضل بالكلمة وبالبندقية في سبيل حرية شعبه. لكن ينبغي القول إن شيركو بيكه س ينتزع حفاوتنا في قصائده أكثر مما يفعل في أعماله الطويلة المفتوحة على خلائط عديدة.