ووري الثرى في «بور سعيد» أمس، بعد رحلة طويلة مع المرض، تاركاً مجموعة من الإنجازات والأفكار، بينها تأسيس أول يومية يسارية مستقلّة هي «البديل»
محمد خير
رحل محمد السيّد سعيد (1950) بعد معركة مع المرض ليس فيها منتصر وخاسر. لم يكن المرض أشرس معارك المثقّف العتيد، ولم يكن ليتراجع أمام المرض. بل ظلّ يكتب ويعمل حتى آخر نفس، ثم عاد بقرار ذاتي إلى مصر منتظراً الموعد الذي لم يتأخّر. أسبوع واحد، ثمّ صدق الموت وعده حيث «الصدق شرّ إذا ألقاك في الكُرَب العظام».
نعى كثيرون ـــــ وسينعون ـــــ سعيد بوصفه المفكر «اليساري». بعضهم سيعتبره «الليبرالي»، وآخرون سيمزجون بين هذا وذاك. والواقع أنّ في رحيل سعيد «الآن» بعداً رمزياً لا تخفى دلالته. إذ لا مكان للمركّب في واقع التسطيح، كما أن لا مكان للثقافة في عصر الميديا. الثقافة بمعناها العضوي وبوصفها تقليباً دائماً لتربة الأفكار، وابتعاداً عن فخ التبرير الاجتماعي. بهذا المعنى، سعيد لم يخجل من إعلان قطيعته مع الماركسية اللينينية، وبهذا لم يعد ماركسياً، ثم لم يعد عضواً في أي تنظيم يساري. وبالتالي، لم يعد شيوعياً. في سنواته الأخيرة، سلك السياسة من مدخلها المعرفي. مع ذلك، انتهز كل فرصة لتسجيل «الفعل» السياسي كما تيسّر له. في فرصة لقاء مع الرئيس حسني مبارك في معرض الكتاب، خرق إجماع المجاملة بحديث التعديل الدستوري فناله ما ناله من منعٍ ورقابة.
صاحب مثال على أن التنوّع لا يعني التناقض
ثم يرأس ـــــ وهو لم يكن صحافياً ـــــ تحرير أول يسارية مستقلّة هي «البديل»، فيخوض بها ومعها معارك العدالة الاجتماعية والتنوير. ولمّا يشتد عليه المرض، يتركها لصحافي من الجيل الجديد، قبل أن تتعثّر التجربة وينقطع الأمل بعودتها قبل أيام من رحيل المؤسّس. كأنها مفارقة أخرى، واجهت الجريدة نفس ما واجه سعيد من أسئلة قبل الرحيل وقبل التوقّف: ما هو اليسار «الآن»؟ وما مستقبل الاشتراكية؟ أسئلة لا توفّر المعاجم إجاباتها بل الوقت بصفته مادة الحياة، والواقع بصفته لغزاً عربياً كبيراً ومحزناً. من هنا لا يمكن اعتبار سعيد يسارياً إلّا بالمفهوم التقدمي، حيث المثقّف جملة من المواقف تواجه الظلم والفقر والرجعية. وتحاول استخلاص مفاهيمها ـــــ الموقتة ـــــ من كلّ ذلك، وإعادة إنتاجها بصورة «مفهومة» لكل جمهور مفترض. ثم هي أفكار تشتبك ببساطة مع الواقع المعقّد. ومن هنا يمكن فهم عضوية سعيد في حركة «كفاية» و«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» معاً. هذا مع كونه منسّقاً دائماً في «الأونيسكو»، وكاتباً ومحلّلاً سياسياً مارس الاختلاف والاتفاق حتى مع حركات المقاومة «حماس» و«حزب الله» من دون خوف من المزايدات. فقد ذاق «الواقع» إلى أقصى حدوده، محارباً مع الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973، وسجيناً إثر تضامنه مع إضراب عمال الحديد والصلب (1989).
بين هذا وذاك، اقترب من السلطة منذ عمله في «مركز الأهرام» في السبعينيات، وصولاً إلى مشاركته في تأسيس «كفاية» و«المنظمة المصرية لحقوق الإنسان» في الثمانينيات. هذا الحشد من الخبرات العملية والمعرفية (دكتوراه في العلاقات الدولية، وإجازة في الاقتصاد والعلوم السياسية) أنتج النموذج المثالي لمحلّل استراتيجي حقيقي لا تلفزيوني. وهو وإن لم يكن صاحب مدرسة فكرية، فإنه صاحب مثال على أن التنوع لا يعني التناقض، والسياسة لا تساوي ـــــ بالضرورة ـــــ الإيديولوجيا، وأن الحياة ـــــ مهما قصرت ـــــ يمكن أن يطول معناها.