الوطن المؤجل تجسّد «بواسطة» البينالي الشهيرسناء الخوري
في دير شيّدته راهباتٌ بنديكتيات عام 1492 على جزيرة جيوديكا (البندقيّة/ فينيسيا)، افترش الخشخاش الفلسطيني الأرض، وملأت صورُ الأبنية العشوائية لأحد المخيّمات الجدرانَ... ذلك الدير العتيق احتضن المشاركة الفلسطينية الوطنيّة الأولى في التظاهرة العالميّة التي تقام كل عامين في الجزيرة الإيطاليّة الشهيرة.
7 فنانين فلسطينيين من الجيل الجديد، يعملون في الفنون المعاصرة، مثّلت إبداعاتهم مادةً دسمةً لجناح «فلسطين بواسطة البندقيّة» الذي اتخذ صفة معرض مواز لـ«بينالي البندقية» في دورته الـ53. قدّم شادي حبيب الله، وتيسير البطنيجي، وإملي جاسر، وساندي هلال، ورفيق دربها أليساندرو بيتي، وجواد المالحي، وخليل رباح، أعمالاً بين التجهيز والتصوير الفوتوغرافي والفيديو، عرضت بين 7 حزيران (يونيو) و30 أيلول (سبتمبر) الماضي. حملت الخطوة الطليعية، لمسات منسقة المعرض سلوى المقدادي. وقد وقّعت هذه الباحثة والأكاديمية الفلسطينية، أخيراً في بيروت، كتاباً فنيّاً يختصر التجربة ويقاربها من جوانبها كلها. (راجع الكادر أدناهنجح معرض «فلسطين بواسطة البندقيّة» في تحويل البندقيّة إلى فضاء ينقل صوت فناني الأرض المحتلة إلى العالم. تلعب عبارة «بواسطة» على مجاز الطوابع البريدية وجوازات السفر وما يستتبع غياب هذه الوثائق من فكرة مواطنة مؤجلة. تلك التفاصيل البسيطة، يفتقدها الفلسطينيون، إذ يعتمدون على وثائق سفر وخدمات بريدية صادرة عن الاحتلال أو عن دول الشتات. هكذا تحول مفهوم التمثيل الثقافي، في هذا المعرض تحديداً، إلى فعل سياسي، مع أعمال لفنانين فلسطينيين نجحوا خلال السنوات العشر الأخيرة في إثبات أنفسهم على الساحة الدوليّة (حيث نالوا الجوائز المرموقة)، وفي متاحف الفن المعاصر العالميّة. وقد استطاعوا، كمجموعة، جذب اهتمام العالم إلى مساحتهم الخاصة، وإطلاق العنان لحكاياتهم الرازحة تحت وطأة الاحتلال.
تمحور عمل تيسير البطنيجي (1966) حول زهرة الخشخاش، أو الحنّون في المحكيّة الفلسطينية. في عمله التجهيزي الأدائي «حنون 1972 ــــ 2009» برى الفنان قشارة قلم أحمر ونثرها على الأرض، ليصنع منها حقل خشخاش، انطلاقاً من علاقة هذه النبتة بذكرى الشهداء في الوعي الفلسطيني والعربي. خلف حقل النشارة الحمراء، علَّق البطنيجي صورة محترفه في غزّة.
من جهته قدّم شادي حبيب الله (1977ــــ القدس) عملاً يجمع بين التحريك والتجهيز والفيديو، بعنوان «حسناً اضرب اضرب لكن لا تهرب». رسومٌ متحركة بالأبيض والأسود، تجسد حركة الولادة والموت والضرب والقتل، تنقل بعداً ميكانيكياً لحياتنا وعلاقتنا بالطبيعة، أتيح للزوار مشاهدتها على أربع قنوات فيديو، امتدت على الأرض والجدران.
ووقف الزوار في الطابور، أمام غرفة ساندي هلال وأليساندور بيتي (1973ـــــ بيت لحم) السوداء، ليدخلوا ويسمعوا تسجيلاً صوتياً صاخباً على إيقاع التكنو. العمل ثمرة جولات الثنائي المكوكيّة في المدن الفلسطينية، حيث سجلا نقاشات عن تحوّل رام الله إلى عاصمة لفلسطين قد تكون نهائية، وإلى «مدينة عاديّة». عنوان العمل «عارض رام الله»، وينقل «هلوسات الحالة السويّة» والوهم المتأتي من فكرة العيش تحت الاحتلال و... بحريّة في الوقت نفسه! هكذا، نسمع صوتاً يقول: «عندي سؤال، نحن نعيش في رام الله فهل نحتاج إلى دولة فلسطين؟».

تحوّل مفهوم التمثيل الثقافي، في هذا المعرض تحديداً، إلى فعل سياسي

جواد المالحي (1969 ــــ القدس) قارب واقع الاحتلال من الزاوية النقيضة للمدينة الثابتة. في «بيت 197» انبرى إلى تصوير مخيم شعفاط للاجئين في القدس، ملعب طفولته. من خلال «فَلْش» الصورة على مساحة واسعة، استكشف البنية المعمارية للمخيم، وتحولات الإسمنت المستمرة. إنه إسمنت للاستخدام الموقت. صوَّر الفنان أيضاً شباباً يعيشون على هامش المخيم في حاوية مرفأ يضم مستودعاً كبيراً للوقود. هؤلاء هم شخوص ذلك «الموقت»...
أمّا خليل رباح (1961 ــــ رام الله)، فقدّم في عمله «بينالي رواق الفلسطيني»، ملخصاً لعمليّات ترميم مواقع تراثية في 50 قرية فلسطينية وإحيائها، ضمن مشروعه «بينالي رواق 3». العمل امتداد لفكرة البينالي، وتثوير لها، وقد انطلق مطلع حزيران (يونيو) ويستمرّ حتّى آخر تشرين الأول (أكتوبر) الحالي.
وأخيراً بلغت إملي جاسر (1970 ــــ رام الله/ نيويورك)، الحائزة «جائزة الأسد الذهبي» في الدورة الماضية من «بينالي البندقيّة» (2007)، بعداً متقدماً في بحثها التاريخي المعماري. في «ستازيوني» (محطة)، اقترحت جاسر ترجمة عربية لأسماء محطات الزوارق «فابوريتو» على خط القناة الرقم 1 في البندقية بهدف خلق خط مواصلات ثنائي اللغة (عربي/ إيطالي) طيلة فترة البينالي. تخيلتها الفنانة لمسة عربيّة تضاف إلى شواهد معمارية عربية أيضاً، عائدة إلى قرون من التبادل الثقافي بين البندقية والعالم العربي. لم تُتَح لجاسر فرصة تنفيذ عملها على الأرض، بعدما تراجعت الجهات المعنيّة عن موافقتها المبدئيّة على المشروع. هكذا عرضت جاسر صوراً رقميّة عن المخطط التفصيلي الذي أعدّته: قوارب بأسماء مثل «القديس زكريا» و«بيت الذهب» تتبختر في مياه البندقيّة.
«بواسطة فينيسيا» أعلنت فلسطين حضورها على الساحة العالميّة، ككيان مستقلّ، في أبرز المواعيد الفنية العالميّة على الإطلاق. مرّة أخرى تتقدّم الثقافة على السياسة، والإبداع يسبق التاريخ، في إعلان دولة فلسطين... وذلك من خلال الفنّ المعاصر.

سلوى المقدادي: هكذا تحقّق الحلم الإيطاليتحدثنا المقدادي عن الشروط الخاصّة بالعرض في البندقيّة. «لا بينالي دي فينيسيا» الذي انطلق عام 1895، مقتصراً على معرض واحد، ارتأى لاحقاً أن يدعو الدول، إلى تشييد أجنحة ثابتة إلى جانب المعارض المركزيّة، في الـ«جيارديني» (الحدائق العامة في كاستيلو/ البندقية)، ووصل عددها أخيراً إلى 29 جناحاً. أمّا الدول التي لا تملك أجنحة ثابتة، فتستأجر أماكن مختلفة في المدينة، فيما تُصبغ على المعارض التي لا تتمتع بتمثيل وطني رسمي، صفة المعارض الموازية، كما في حالة فلسطين. ولا شكّ في أن إنجاز إيصال فلسطين إلى هذا المحفل الفني العريق، يسجّل للمقدادي،

جيل «ما بعد أوسلو» وتأثير الاحتلال على الفرد

ويضاف إلى سيرتها الغنيّة، بين التأريخ الفني، والحضور الأكاديمي.
خلال الإعداد للمعرض ــــ الحدث، كان هاجس إشراك فنانين شباب من الداخل الفلسطيني يسيطر على أولوياتها. أرادت قبل كل شيء تسليط الضوء على أساليبهم في معالجة الحياة اليومية. كما أصرّت على أن يقتصر الدعم المادي على جهات فلسطينية ضماناً للاستقلالية، وعلى أن تقام نسخة موازية للمعرض في فلسطين. هكذا تولى «حوش الفنّ الفلسطيني» و«المعمل» (القدس)، و«الأكاديمية الدولية للفنون ــــ فلسطين»، و«مؤسسة عبد المحسن القطان»، و«متحف المقتنيات الأثرية والفنية في جامعة بيرزيت»، و«رواق ــــ مركز المعمار الشعبي» (رام الله) عرض الأعمال المشاركة.
تكتب المقدادي في مقدمة الكاتالوغ، أن اهتمام جيل ما بعد أوسلو من الفنانين، ينصبّ على قضية الاحتلال وتأثيره على الفرد، من دون حماسة للقضايا السياسية الحزبية الداخليّة. وتعتقد المؤرخة العاملة منذ ربع قرن في مجال الفن العربي والمتاحف أنّ الإشارة إلى هذه الحساسيات المختلفة نقدياً، يقتضي أن تطور اللغة العربيّة مصطلحاتها وأدواتها، لتصبح قادرة على نقد فنونها بنفسها.