Strong>صفوف نظريّة وتطبيقيّة وورشات نكتشفها قريباًيفتقر الرقص المعاصر إلى الشرعيّة عربيّاً، بقدر ما يفتقر إلى الأسس التقنيّة والجماليّة والمعرفيّة اللازمة لنموّه وانتشاره. من هنا، أهميّة المبادرة التي قام بها عمر راجح في بيروت، وهي تأسيس مدرسة متخصصة، عبرت فيها منذ الصيف هنرييتا هورن، وماتيلد مونييه، وجيل جوبان... زيارة إلى استوديوهات «مقامات»...

سناء الخوري
يرمون أجسادهم على الأرضيّة، ثمّ يتمرّغون عليها كأنّها أمهم الأصليّة. ينهضون، ثمّ يقفزون في انعتاق أو غضب، من دون أي رغبة في الانفصال عن العنصر الثابت، ولا حتّى في الطيران. تراقبهم هنرييتا هورن في زاويتها، تنهض لمساندتهم، تعطيهم تعليمات عن وضعية الظهر والعضل. إنّهم طلاب «تكوين ــــ مدرسة بيروت للرقص المعاصر» التي انطلقت في آب (أغسطس) الماضي وتستمرّ حتى نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الحالي. هورن، مصمِّمة رقص ألمانيّة أشهر من أن تُعرّف، وهي واحدةٌ من الأساتذة الذين واكبوا الطلاب في استوديو «مقامات للرقص المسرحي» (الحمرا ــــ بيروت)، بمبادرة من سيّد المكان عمر راجح. هذا الأخير، دعا الراقصين العرب والأجانب للترشح لبرنامج تعليمي مكثَّف، وكانت الحصيلة 11 طالباً اختيروا من بين عشرات المرشّحين.
غسان سلهب تناول صورة الجسد في أفلامه، ووليد صادق حلّل مفهوم الجثّة
رمى عمر راجح حصاة في مياه الرقص المعاصر الراكدة عربياً. مبادرته تُعدّ طليعيّة، في ظلّ غياب المناهج الأكاديميّة التي تعلّم الرقص عن معظم المعاهد الفنيّة العربيّة. تحولت التمارين اليومية المنهكة، طقوساً سريّة لم يتناهَ منها شيءٌ إلى مسامع المارّة اللامبالين في صخب الشارع الموازي. المدرسة التي تنظمها «مقامات» بالتعاون مع «شبكة مساحات للرقص» وفرق أوروبية، وبدعم من«معهد غوته» و«المركز الدنماركي للثقافة»، وسفارة النروج في لبنان، جمعت بين دراسة التقنيات الجسديّة من جهة، والكوريغرافيا والأداء المسرحي من جهة أخرى.
ركّزت هنرييتا هورن، مثلاً، على علاقة الجسد بالأرض، واستخدام الجاذبيّة للتحرك بحريّة، إضافةً إلى خلق عرض راقص متكامل انطلاقاً من حركات تلقائيّة. من جهته، اشتغل مصمم الرقص الإسباني خرمان جوريغي على تقنيّة الاحتكاك وتوزيع الوزن. صفوف أخرى في الخلق أعطتها الفرنسيّة ماتيلد مونييه، والسويسري جيل جوبان، والكورية إنغ ــــ جونغ جون، إضافةً إلى صفوف في المسرح التعبيري مع عايدة صبرا. كما ضمَّت «تكوين» صفوفاً في تقنيات الارتجال وتحليل الحركة وتاريخ الرقص. وخصصت صفوفاً ومحترفات لمسألة «علاقة الرقص بالتكنولوجيا والتجهيز»، مع الفرنسيّة فرانسواز تارتينفيل، والبلغاري تودور تودوروف، واللبناني ياسين سبتي، والفرنسي سيمون لاروش. هذا إضافةً إلى محاضرات نظريّة مع السينمائي غسان سلهب والفنّان والمنظّر وليد صادق. كان لصاحب «أشباح بيروت» وقفة مطولة عند صورة الجسد في أفلامه، فيما تطرّق صادق لمفهوم الجثّة، انطلاقاً من بحث يشتغل عليه في الفترة الأخيرة... هناك ورشات عمل يديرها كلّ من السورية نورا مراد، والدنماركي ينز بيرغارد، والتونسي رضوان المؤدّب، والهولندي ماسيمو موليناري. خلاصة هذه الورشات سنشهدها في سلسلة عروض ومحاضرات تنظمها «مقامات» في 31 تشرين الأول (أكتوبر) و1 تشرين الثاني (نوفمبرلكن ما هي الإضافة التي تأتي بها «تكوين» في وقت بلغ «الدانس تياتر» عالمياً آفاقاً ما زالت غريبة عن الثقافة المشهديّة العربيّة؟ يعتبر عمر راجح أنّ موافقة مصممي رقص، ذوي مستوى عالٍ من الخبرة، على التدريس في «تكوين» كانت إنجازاً بحدّ ذاتها. هذا من دون الحديث عن ترسيخ المدرسة لما بدأه «ملتقى بيروت للرقص المعاصر Bipod»، وعن الآفاق التي ستفتحها للمشاركين فردياً وعالمياً. مثلاً، مثقال الزغير ورامي فرح (سوريا) المتخرجان من «معهد الفنون الجميلة ــــ رقص» في بلدهما، وجدا في الصفوف إضافات جوهريّة إلى مسيرتهما. ليزيت شحادة، وكلارا صفير، وكارولين طوق، وجوليان عرب، وريما مارون (لبنان)، وأحمد صالحي (الأردن)، آتون من خلفيات مختلفة إلى مهنة لا يمكن «أن تكون مصدر عيش في بلادنا» كما يجمعون. مع ذلك، نجدهم مسكونين بهاجس إتمام مشاريع خاصة. في المقابل، تلفتنا الإسبانيّة كريستينا غوميز إلى أنّ سوق العمل في هذا المجال الإبداعي، يعاني تخمة أيضاً في أوروربا. أمّا أمل خطيب وروان حوراني (فلسطين) اللتان تخلفتا عن الصفوف الأولى إثر مشاكل في تأشيرة الدخول من فلسطين إلى لبنان، فترقصان مع فرقة «سرية رام الله الأولى». تقول أمل: «قد يعبر الرقص عن طبيعة حياتنا غير المستقرة. حتّى إمكانيّة الرقص ليست ثابتة، وتبقى هواية على هامش الحياة».
الرقص الحديث الذي أخرجه الأميركيّان مارتا غراهام ثم مارس كونينغهام من ذلك الهامش تحديداً، جاء في النصف الأوّل من القرن العشرين، لينقض الباليه الكلاسيكي وقواعده الجامدة. لقد واكب حينذاك ثورة فكريّة وفنيّة، كان أول بنودها: تحرير الجسد من البعد الميكانيكي للحركة، وجعله مشعل أسئلة، يحاكي ألم معاصريه وفقرهم، تشردهم، وسذاجتهم، وخوفهم وعقدهم... صار «فنّاً يسائل وجود الجسد، وعلاقته بالحياة» كما يقول عمر راجح. وواصل فنّانون عالميّون (من موريس بيجار إلى بينا باوش) تطويره والتنويع عليه وصولاً إلى الرقص المعاصر...
في سياق إعادة صياغة آلامنا وحياتنا المهزوزة، يبدو مشروع «تكوين» ترفاً ضرورياً. لكن أليست هذه الضرورة خارج سياق زمننا؟ ألا تبدو كأنها أنزلت بمظلة وسط طبقات من القمع والكبت ورفض الجسد بالمطلق؟ ذات يوم، أجابت مارتا غراهام عن سؤال مشابه: «الفنان لا يتقدم على زمانه. الفنان هو زمانه... الآخرون هم المتخلفون عن العصر».