المجتمعات التي تلجأ إلى «المضمر» هي التي تعيش في ظلّ أنظمة توتاليتاريّة. في كتابها الذي صدرت ترجمته العربيّة أخيراً، تقودنا الباحثة اللغوية إلى طبقات اجتماعية وسياسيّة ترقد تحت الكلام المباح
نوال العلي
نظرت إلى تكاثف البرد على الزجاج وهمهمت: الطقس بارد. ردّد الرجل خلفها: نعم إنّه بارد. فتشت عن معنى هذه العبارات: لماذا يتحدث اثنان في غرفة عن الطقس بعبارة لا تقدم ولا تؤخر؟ لأنّ أحدهما لا يملك ما يقوله للآخر؟ أم لأنّها أرادت أن يحتضنها أو على الأقل فرك كفيّها. استعادت ذاكرتها كلمات وضعت تحتها خطوطاً من كتاب يقبع على المنضدة منذ كانون الماضي. باتت مطالعة ذلك البحث المتخصص تساوي حاجة عاطفيّة كهذه. تقول الفقرة «يُقصد من التكلم التحدث عن أمر ما، ويراد من التحدث بأسلوب مضمر أن نوحي لأحد الأشخاص التفكير في أمر ما، ولكن كيف السبيل إلى حمل شخص على التفكير في أمر لم يتفوّه به ولم يذكر في القول إطلاقاً».
تقرأ كل يوم صفحات قليلة من «المضمر» بترجمته التي أبلت فيها ريتا خاطر جهداً جهيداً. تتكاسل عن هذا العمل الضخم جداً للباحثة اللغويّة كاترين كيربرات ـــــ أوريكيوني بدعوى أن الكتاب متخصص في علوم الدلالات. لماذا نتكبّد نحن الناس العاديين قراءته؟ إلاّ أنّ الأمر نفسه يحدث في كل مرّة. تحوّل الأيّام بعض الكتب البعيدة عن القلب، إلى جزء حميم من التجربة، و«المضمر» (المنظمة العربية للترجمة ـــــ مركز دراسات الوحدة العربية) واحد من هذه الكتب.
الكتاب مجعول للراغبين في التفتيش عما وراء الكلام، عن ميتافيزيقا العبارات كما صورت لها مخيلتها لوهلة، أليس لمثل ذلك نقرأ ما يكتبه الآخرون؟ أليس لمثل هذا تكبّدت أوريكيوني مشقّة عملها الواضحة «المضمر». بحثاً في/ وعن ضمير الكلام الغائب. فإن هتف المسنّ نازير لاروش لامرأة أخيه في كتاب «قصة كندا الفرنسيّة» «هل خبزت؟» فقد استغرقها الأمر وقتاً حتى فهمت أنه يريد أن يأكل. وإذا كان الأمر كذلك في لغة النهار والكلام العابر، فكيف هو شأن قراءة مضمر الأدب مثلاً وخطابات السياسيين وتأويل النصوص ودلالاتها التي تضمر ثلثي القصد. ومهما توخيتَ الدقة في الإبلاغ عن المعنى، يظلّ «المضمر» قابعاً في مكان ما خلف ما تنطق أو ما تكتب. فيا كلماتنا بلّغي عنا!
لكن لماذا لا تقال الأشياء مباشرةً وبلا مواربة؟ ولماذا يوجد المضمر في الأساس، كيف تمكّن من تثبيت ضرورته في اللغة والتواصل. هل هو ضرورة حقاً؟ وإذا ارتبط وجود المضمر بضرورة التأويل والقدرة على فضّ غشاء المحتوى، فمن يؤول وكيف؟ هذه الأسئلة تقلق أستاذة علم الكلام الفرنسيّة منذ بدأت أبحاثها في عمل الدلالة والتداوليّة التواصلية حين أصدرت بحثها الأول 1985 «الدلالة» La connotation. وفي البحث الذي بين أيدينا، تغرق في محاولة لإيجاد الإجابة.
بحسب أوركيوني، فإن أكثر المجتمعات التي تلجأ إلى المضمر هي التي تعيش في ظلّ أنظمة توتاليتاريّة، لأن سوى ذلك يعرّض المرء للشبهة فيلجأ إلى الاستعارة والمثل والرموز والمحسنات البيانية. وقد «يعجز المتكلم عن استعمال العبارة المباشرة لأسباب تتعلق باللياقة» كتجنب المحرمات في مجتمع معيّن أو لإحباط الرقابة ذات الطابع الأخلاقي أو السياسي أو الديني أو القانوني. ليس من اللائق أن «نعترف بالحب» لأن «حشمة الجنس تأباه، أو لأن المسألة تتعلق بانحراف مذنب، فنلجأ في هذه الحالة إلى إغراق المعنى من خلال إنكاره مثلما فعلت شيمين في مسرحية ماريفو الشهيرة «لعبة الحب والصدفة» حين قالت سأقول لك كل ما يسرّك، ماذا تريد مني؟ لا أكرهك البتّة».

القراءة تأويل يشبه تفسير الأحلام لدى فرويد

لجأت أوركيوني إلى تأويل الخطاب المسرحي للتدليل على تراتبية الفاعلين في تأدية المضمر وتراتبية المضمر نفسه والمحسنات البيانية، العوامل التي تؤثر على متلقي المسرح وعلى الممثلين وعلى المتتالية النصية نفسها. سنجد تأويلاً للمضمر في مسرحيات وروايات مختلفة بينها رواية «الألوان السبعة» لروبير برازيّياك ومسرحية «المغنيّة الصلعاء» لأوجين إيونيسكو.
«المحتويات المضمرة وأنماطها» و«المحسن البياني» و«وفك ترميز المضمر» و«كفاءات المتكلمين» و«الحساب التأويلي»، خمسة فصول قدّمت الباحثة مفاتيحها بتدرجها بين أمثلة بسيطة وأخرى أكثر تعقيداً من الكلام المحكي إلى النصوص الأدبية وحتى عبارات مقتبسة من أحاديث السياسيين والمشاهير وبعض الأفلام أيضاً. وأوقعت مسؤولية بروز المحتوى على المتتالية النصيّة بمعنى سلسلة العبارات والإيماءات التي تكوّن النص، والسياق الحالي والهامشي المحيط بالنص.
الخلاصة التي يخرج به القارئ من هذا الكتاب، هو التغير الذي يحدث لفعل القراءة نفسه. بمعناه الضخم. فكاترين كيربرات ــ أوريكيوني عملت هنا على أن يأخذ المرء في الحسبان عدداً أكبر من العناصر الدّالة: «القراءة التي لا تغفل أياً من العناصر الدّالة تكون بلا منازع أعلى شأناً من تلك التي تشذّب النص أو تمر عليه بلا تمعن».
وبهذا المعنى تصير القراءة، بدءاً من فهم كلام الآخرين وانتهاءً بقراءة كتاب قبل النوم، تأويلاً يشبه تفسير الأحلام لدى فرويد. هناك طور من الترميز في الحياة مثلما هو في الأحلام، يسعى إلى محو محتويات الظاهر النصي المكبوتة، وتكييفها في رموز تقتضي تمتعنا بالقدرة على التأويل. إنّ مجرد التفكير في ذلك يعادل حلّ ألغاز العلاقات الإنسانية برمتّها، القائمة غالباً على سوء الفهم أو تعدد قراءات «المضمر».