سناء الخوريفي البدء كانت الخطيئة، ومعها في مسرح جان جينيه، كل الانعتاقات التي تضعها قوانين البشر في خانة الشرّ والإثم. حين أصدر مارتان أسلان كتابه المرجعي «مسرح العبث» عام 1962، مقترحاً تصنيف أعمال الأربعينيات والخمسينيات المسرحيّة في تيار واحد، وضع جينيه في الخانة نفسها مع إيونيسكو، وبيكيت، وأداموف، وبنتر. أطلق هؤلاء رصاصة الرحمة على الحبكة بمعناها التقليدي، وعلى الزمان والمكان المسرحيّين، لتبقى الشخصيات وحدها، تصارع عبثيّة الحياة، تسخر من الموت ومن الهويّة.
لكن إلى أي مدى يجوز اعتقال عوالم جان جينيه في خانة «مسرح العبث»؟ إنّ أعماله تحمل هويّة فريدة. أجزاء مبعثرة من سيرة ذاتية، وبيانات ثورة تمجّد «الخطأ»، تستعصي على كل تصنيف أكاديمي.
منذ «الخادمتان» (1947) و«مراقبة مشدّدة» (1944) وصولاً إلى «البلكون» (1957) و«الزنوج» (1959) و«السواتر» (1961)، أسقط جينيه تهويماته على الخشبة، في رؤية خمّرتها تجربة السجن والمثليّة والتشرّد. هو لم يعش في الهامش فحسب، بل مَسرَحه انطلاقاً من رغبة جامحة في التصادم مع الأعراف الاجتماعيّة. حوّل الخشبة إلى مرتع لخياله، وأسكنها أبطالاً مجانين يتقاسمون رغبات غير متاحة لعامة البشر من العقلاء. تماماً مثل إستراغون وفلاديمير بطَلَي مسرحيّة بيكيت «في انتظار غودو»، التحقت سولانج وكلير بطلتا «الخادمتان» في غاليري الشخصيات الكلاسيكيّة، صارتا من وجوه ميثولوجيا معاصرة. أرادهما جينيه، فرصةً لقول المجتمع بالمقلوب، تماماً كأبطال «الزنوج» و«السواتر».
الرفض هي كلمة السرّ في أعمال هذا المسرحي المشاكس. نراه يحوّل الجريمة والجنس إلى قيمتين مطلقتين. في «الخادمتان»، تحلم الأختان بقتل السيدة، وفي «البلكون» يدخل قاضٍ ومطران وقائد عسكري إلى بيت دعارة، حيث تختلط الأوراق بين الحقيقة والوهم. في «الزنوج»، يمثّل السود دور أسيادهم، يقتلونهم في خيالهم وينتحرون. يكسر جينيه المثلث الأوديبي: فقتل «الأب» لا يكفي، بل يقتضي هذا الفعل التحرري قتل الابن أيضاً. دوّامة جنونيّة، يتحوّل فيها كلُّ فرد إلى محكوم بالإعدام في عالم يقمعه. إنّه رفض أصلي وبدائي لفكرة الاستمرار في عالم منافق. هنا، تصبح ثنائيات الأنوثة/ السلطة، الوهم/ الحقيقة، الفضيلة/ الرذيلة، ذريعة للعبة غرائبية. وتتحوّل الأزياء والأقنعة والمرآة الحاضرة دوماً، إلى وسيلة لإزالة الحدود بين الأجناس والطبقات، وأداة لإزعاج السلطة الأخلاقيّة ومنظومة القيم السائدة. أمّا الهويات، فتغدو ضحية لتحولات جذريّة خلال اللعبة المسرحيّة. تدخل الشخصيّة الواحدة قناعاً لتخرج من آخر، وتدور في متاهة من الظهور والاختفاء، وفي أجواء تشبه الأحلام والكوابيس. «الزنوج» هي المثال الأوضح لهذه الناحية، بحيث يؤدّي السود دور البيض، ثمّ يقتلونهم في ما يشبه الطقس التطهيري. في «البلكون» نشاهد كرنفالاً تلبس كل شخصية فيه قناعاً وتطلق العنان لغرائزها.
تتحول الخشبة في أعمال جان جينيه إلى انعكاس للواقع. تتداخل فيها خطوط الوهم والحقيقة الأصليّة في مقاربة تشبه كهف أرسطو. كلّ ذلك يوظفه جينيه ليقول سخطه السياسي. في «السواتر» يتحدث عن حرب الجزائر، وفي «الزنوج» يتناول العنصريّة، وفي «البلكون» يهزأ من السلطة القيمية... ماذا لو قلنا إن جينيه كان كاتباً سياسياً بالدرجة الأولى، وإن مسرحه كان قبل كلّ شيء أداة سخرية وتمرّد، تنشر القلق والشك والفوضى.