strong>أعمال المعلم اللبناني تنتشر في ساحة النجمةأحصنة وثيران وقطط وطوواويس وأسراب طيور... يثابر التشكيلي والنحّات المعروف على إنجاز طبعاته المنقّحة. في معرضه الأخير الذي تستضيفه «غاليري عايدة شرفان» يبتعد عن الاستطرادات الزخرفية. أعمالٌ معدنيّة ثلاثية الأبعاد، تجمع بين التفرّد والإعجاز

حسين بن حمزة
معرض جديد لحسين ماضي (غاليري عايدة شرفان) ليس حدثاً عادياً أو عابراً. منحوتات هذا «المعلم» اللبناني (1938) تدنو من لحظة الإعجاز. النحت هنا نوع من الخلق، والنحات خالقٌ، لكن من طينة البشر لا الآلهة. على أي حال، يبدو أن محاولة بلوغ الإعجاز صفة مستديمة في شغل ماضي. وهي صفة جعلته متباهياً، بالمعنى الإيجابي، بعمله، وجعلت الآخرين ينظرون إليه على أنه فنان كبير لا يرضى أن يوضع في المصافّ نفسها مع الآخرين.
نتساءل كيف حوّل الحديد طيوراً مهاجرة، ونفكر إذا كنا قد رأينا سرباً منحوتاً من قبل
نبدأ من الرصيف المحاذي للغاليري في ساحة النجمة، حيث أُعطيت الفرصة للمارّة كي يتقاسموا مشاويرهم الاعتياديّة مع ثلاث من منحوتات ماضي الضخمة: عازف غيتار، ثور، وتفاحة حمراء. في الداخل، عازف آخر أصغر حجماً، والكثير من الثيران. ثمة أيضاً نساء بملامح كاملة أو ممحوّة، قطط وأحصنة، ثم طيور بأنواعها، مضمومة الأجنحة أو مفتوحة، منفردة أو في أسراب. إنها كائنات ماضي التي لا يزال يثابر على إنجاز تصورات وطبعات منقَّحة منها، باحثاً عن حركة أو نأمة جديدة يستطيع التشريح العظمي والعضلي إظهارها على الشكل النهائي للمنحوتة. أعمالٌ معدنية، لم تُنجز بتفريغ المدة الخام كما يحدث في نحت الحجر أو الرخام أو الخشب. الشغل على المعدن يتطلب عدة مختلفة قائمة على القصّ والطيّ و“التطعيج” والقليل جداً من اللصق والتلحيم. نُحسّ أحياناً بأن روحاً ما نُفخت في صفائح المعدن فتحولت إلى طيور وأحصنة وثيران وقطط وطواويس... والروح هنا ليست مفهوماً دينياً، بل معرفة النحات بقواعد عمله وأصوله.
ليس غريباً أن يركز ماضي على ضرورة التمكن من الأصول والتكوين والمقاييس. لا يكون العمل الفني جميلاً ما لم يكن صحيحاً، تقول لنا أعمال الفنان الذي لطالما عدّ الطبيعة معلِّمه الوحيد. بالنسبة إليه، أن يتعلم الفنان من الطبيعة يعني أن يتعلم من الخالق الأكبر. الطبيعة علّمت ماضي التقشف والاقتصاد. لا نجد ثرثرة نحتية زائدة أو استطرادات زخرفية وتنميقية في أعماله. الشغل على الحديد يجعل هذه الأعمال ثلاثية الأبعاد، لكن سطوحها الناتئة وزواياها ونهاياتها القاطعة والحادة تُظهرها بلا حجم أو كتلة تقريباً. مردّ ذلك أن ماضي غالباً ما يستخدم مسطحاً معدنياً واحداً في إنجاز المنحوتة التي تبدو كأنها حصيلة طيّ المعدن وليّه أكثر من تقطيعه وتلحيم أجزائه. كأن الفنان يسعى إلى نحت حركة الثور أو الطائر أو الحصان أكثر من استهدافه للمنطق الفيزيائي لكتل أجساد هذه الحيوانات وحُجومهاالأرجح أنّ هذا السعي يبرر طموح ماضي إلى جعل حركة الحيوان فارقاً جوهرياً في تمييز المنحوتات المتشابهة عن بعضها. لهذا، نجد ثوراً متأهباً لمنازلة مصارع غائب، ويتناهى إلينا صخب وحماسة جمهور بعيد، بينما هناك ثيران أخرى منتصبة على قوائمها الخلفية أو مستعدة لمناطحة. ونجد أيضاً قططاً وديعة ومطمئنة وأخرى مقوّسة الظهر ومرفوعة الذيل ومستعدة لشجارٍ أو مواجهة خطر ما. ثمة علاقة نحتية مستمرة مع الكائنات ذاتها التي عرفها الفتى حسين ماضي في بلدة شبعا الجنوبية التي شهدت ولادته وتفتّح موهبته، حيث دأب أساتذته على القول لوالده: إن ابنه جيّد في المدرسة، لكنه يضيِّع وقته في الرسم. درس ماضي الفن ودرَّسه، وعاش في إيطاليا أكثر من عشرين عاماً. ذاق وجع ومرارة المقارنة بين راهن حضارته وراهن حضارة الغرب. الوجع تحول إلى حافز آخر للتفوق. لبنانية ماضي لا تعني له أن يكون فناناً محلياً. صحيح أن منحوتاته تعيدنا إلى فنون المنطقة وتراثها النحتي، وخصوصاً في بلاد الرافدين وسوريا القديمة، لكنّ شغله عليها يمنحها هوية عالمية مفتوحة.
لا نفكر في جمال الأعمال التي نراها في المعرض بقدر ما نستغرق في فكرة أن ماضي يحاول الإتيان بما يعجز غيره عنه. نحس بأنه يريد أن يكون متفرداً ووحيداً في ممارسته ونبرته التشكيلية. لقد فعل هذا في اللوحة والمنحوتة معاً. تفانى في عمله كي لا يأتي يوم ويجاريه أحد أو ينافسه على مكانته. ثمة تحدٍّ مزدوج في الأعمال المعروضة. الفنان يتحدى نفسه، والأعمال تتبادل التحدي في ما بينها أيضاً. قد ننحاز إلى منحوتة مدهشة تمثل سرباً من الطيور، لكننا لا نهتدي إلى الطريقة أو المبدأ الذي استُخدم لتحويل الحديد إلى طيور مهاجرة. نتساءل إن كنا قد رأينا سرباً منحوتاً من قبل. لعلّ هذا ما يريدنا ماضي أن نقوله لأنفسنا. إنه يتحدى المتلقي أيضاً. إنه فن حسين ماضي الذي لا نجد شبيهاً له في حياتنا التشكيلية. نسأله عن الجديد في معرضه، فيخبرنا أن الجديد هو استمرار لأعماله السابقة، وأنه لا يؤمن بشيء اسمه «نقلة» ينبغي للفنان أن يحققها من معرض إلى آخر. النقلة موجودة في انسيابية عمل الفنان وتطور منطقه الداخلي ورؤيته الفنية. هل تجربته الطويلة صالحته مع لوحته أو منحوتته، فلم تعد تواجهه أسئلة شائكة أثناء إنجازها؟ يخبرنا أنه في طفولته كان يلهو بـ«الكلة»، ويضيف: «أعتقد أني لا أزال ألعب وألهو. اللاعبون المهرة يحبون أن يربحوا. وأنا لم أخسر يوماً».
■ ■ ■
حتّى 30 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي ـــــ «غاليري عايدة شرفان» (وسط بيروت). للاستعلام: 01/983111