الكتابة الأدبيّة تنضح فكراً، لكنّه فكرٌ لا يملك مفاهيم مجرّدة، ولا يمر عبر مذاهب نظرية... إنها خلاصة «بمَ يفكر الأدب؟» الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربيّة. تلميذ ألتوسير يشرّح هنا أعمالاً معروفة لروائيين فرنسيين: من جورج صاند إلى الماركي دو ساد مروراً بفلوبير
ديما شريف
هل يفكّر الأدب؟ هل يطلق رسائل فلسفيةً أم يستعير من الفلاسفة مفاهيمهم ونظرياتهم؟ أي نوع من الفكر تولّده النصوص الأدبيّة؟ هل هناك مواجهة بين الأدب والفلسفة؟ أسئلة يحاول كتاب بيار ماشيري «بمَ يفكر الأدب؟ ـــــ تطبيقات في الفلسفة الأدبية» (1990) الإجابة عنها عبر تشريح أعمال معروفة لروائيين فرنسيين. العمل الذي انتقل إلى المكتبة العربية («المنظمة العربية للترجمة» و«مركز دراسات الوحدة العربية») بجهد جوزيف شريم، يحاول أن يبرهن أنّ الكتابة الأدبيّة تنضح فكراً، لكنّه فكرٌ لا يملك مفاهيم مجرّدة ولا يمر عبر مذاهب نظرية.
هكذا، يعود تلميذ ألتوسير الذي شارك معلّمه في كتابة «قراءة رأس المال» إلى مجموعة من المؤلفات الأدبية مستنبطاً علاقة الأدب بالفلسفة: يغوص في تفاصيل روايات مدام دو ستايل «كورين» و«عن ألمانيا» و«في الأدب» التي استطاعت درس الشعوب والثقافات القومية ضمن حدودها المكانية والزمانية مع اعتمادها على فلسفة فريدريك هيغيل. يرى المؤلّف أنّ Madame de Staël توظِّف الأفكار الفلسفيّة في نصوصها الأدبية لخدمة الموضوع الذي تتناوله. هكذا فعلت مع كانط الذي لخّصت فلسفته كلّها في صفحات ثلاث في «عن ألمانيا». ويرى ماشيري أنّ ذلك خفة زائدة في تناول نصوص الفلاسفة، لكنه يشيد بمحاولة دو ستايل تقريب الفلسفة من الجمهور العادي. ويضيف أنّه انطلاقاً من اقتناعها بأنّ كانط فيلسوف الحماسة الذي يصالح العام والخاص، ابتكرت دو ستايل فكراً جديداً واتّحد الأدب عندها بالفلسفة.
ويُفرد المؤلّف فصلاً لأعمال جورج صاند، منوّهاً بالتأثير الكبير لرواية «سبيريدون» العائد إلى التشابك الذي أقامته بين الفكري والروائي. ويرى أنّ صاند كانت ترى أنّ دور الكاتب ليس الدفاع عن أفكار، بل إثارة أسئلة يبقى الجواب عنها معلّقاً. «سبيريدون» ترمز إلى تاريخ الانسانية، حيث نجد سبينوزا وفاوست ومالبرانش واندماجاً بين مظاهر الحياة الأشد اختلافاً ضمن رؤية واحدة شاملة.
مع فيكتور هوغو تبلورت فكرة الروايات الشعبية التي بدأها أوجين سو، فكانت «البؤساء» رواية من الشعب ومن أجله لا عنه فقط. تناول هوغو عمق الهوة الاجتماعية في فرنسا وكان يرغب في القول إنّه «حين يُدرَك المجتمع في أعماقه، يصبح مجتمع البؤساء».
ويرى ماشيري أنّ كتابة رواية المجتمع تعني معرفته وعرض واقعه كاملاً. وفي هذه الحالة يكون الأدب فلسفةً. ويقارن ماشيري هنا بين تناول ماركس للوضع الاجتماعي في فرنسا في «الصراعات الطبقية في فرنسا» ورؤية دو توكفيل لها ومعالجة هوغو لها في «البؤساء».
موضوعات الظلمة والعمق استمرت بعد هوغو في القرن العشرين مع أدباء من طراز جورج باتاي وسيلين خصوصاً بعدما أعاد هذا الأخير اكتشاف ماركس في شبابه في الثلاثينيات. تعالج نصوص باتاي المادية عبر رفض التجريد والعمومية وتبقى في آن واحد مرتبطة برهانات أدبية صرفة. وتتميز كتاباته بالتبادل بين التخيّل والتفكير، إذ يحاول أن يقدِّم نقداً شعرياً للمادية عبر كتاباته في مجلة وثائق (documents). يحضر نيتشه إلى جانب ماركس في مؤلفات باتاي في ما يخصّ فكرة تمزّق الواقع انطلاقاً من التكرار لا الانتشار. في المقابل، نجد عند سيلين، مبدع أدب الاشمئزاز والحقد والذنب، ما يشبه رؤية خاصة إلى الكون مع محاولته نشر مفهوم شامل للواقع والحياة.

مقارنة بين «بؤساء» هوغو وكتاب ماركس «الصراعات الطبقية في فرنسا»

من جهته، طرح مفكر «اللاإحترام» الماركي دو ساد مسألة الحدود ونشر أدب التدنيس والإسراف والتدمير، واستخدم طرقاً جديدة لإدراك المواضيع التي طرحها، منها معنى الواقع الفلسفي والسيطرة والمتعة والسرد خصوصاً في كتابه «أيام سدوم المئة والعشرون». نجد عند ساد أفكار ديدرو وسبينوزا في كتب لا تقيم تمييزاً بين الاستثناءات التي تحويها. يقف إذاً ساد على نقيض عقيدة القانون الأخلاقي. ويجد ماشيري لدى ساد متطلبات خاصة تلزمه استحضار الأشياء في غيابها أو إلغائها، فهو يقتلها كي يتمكن من قولها!
أما غوستاف فلوبير فكانت الكتابة عنده تجربة فكرية ينبثق منها درس في الأدب ودرس في الفلسفة. هو يعالج مثلاً في «تجربة القديس انطونيوس» ضلالات الفكر الانساني. يعود طيف هيغل وسبينوزا أيضاً للظهور عند فلوبير إلى جانب أفكار داروين، والماديين الألمان.
يخصّص ماشيري فصلاً لدراسات ميشال فوكو الأدبية («ريمون روسيل» و«الكلمات والأشياء»)، الذي كان يرى أن ألاعيب اللغة عند روسيل تجربة فكرية مهمة وأنّه ابتكر آليات لغة ذات علاقة عميقة بالموت.
يحاول ماشيري في كتابه طرح علاقة الأدب بالفلسفة بتعابير لا تتعلق بالتموضع بل بتعابير الإنتاج، باحثاً عن الطرق التي تستطيع عبرها الفلسفة أن تتعاطى الأدب أو العكس. يستنتج صاحب «مع سبينوزا» أنّ الفلسفة ليست لاوعي الأدب لكنّها لاوعي الأدباء. هكذا يفتح الأدب للفلسفة آفاقاً جديدة ومجالات بحث. ويعود للأدب أن يقول ما يفكر به العصر عن نفسه مع ابتعاده عن أن يكون رسالة إيديولوجية. ألا يمكننا إذاً أن نعلن أنّ الفلسفة والأدب وجهان لخطاب واحد، يقدم كلّ منهما الأحداث والتغيّرات بأشكال متناوبة؟