سوريا الحديثة، بين مثقّف وإسلامي ورجل استخبارات، يرسمها الروائي السوري في «عزف منفرد على البيانو» (الريّس). همّ توثيقي للواقع، يواكب هواجس البطل، وعلاقته بالسلطة وأمراض الوسط الثقافي
زياد عبدالله
إذا كان الروائي السوري فواز حداد وجد في تحريف بطله حامد سليم لنصّ يترجمه، شرارةً لأحداث روايته «المترجم الخائن»، فإنّه ينطلق في «عزف منفرد على البيانو» (رياض الريّس) من تعرض بطله الأستاذ فاتح لاعتداء غامض. بعد هذا الاعتداء، نرى السرد يمضي في حكايته العلمانية والدينية والاستخبارية، متيحاً مساحة لتصارعها سواء في دواخل فاتح أو مع محيطه المتشكِّل وفق رؤية ضابط الاستخبارات.
وفي الحديث عن البيئة الروائية التي حملتها روايات حداد الأربع الأخيرة، نلاحظ بيئة فكرية تتشابك مع واقع مغيَّب، فيها ملامح من سوريا الحديثة، وتحديداً سوريا ما بعد الحركة التصحيحية... هناك همٌّ توثيقي لا يحيد عن الواقع بفجاجته العبثية، وسودوايته المضحكة المبكية. رؤية تصوّر بشراً يعيشون ويتلوّنون وفق أخلاقيات أنتجها واقعٌ خاص.
نقع على ذلك في «مرسال الغرام» (2004) ويتواصل مع «مشهد عابر» (2007) التي بدا فيها حداد أشدّ انحيازاً للتوثيق، من خلال لغته المتقشّفة وآليات سرد متناسلة من شخصية إلى أخرى. فقد بدأ سرده مع أحمد ربيع ومرّ على رموز سلطوية كثيرة مثل قاضي أمن دولة وضابط استخبارات سرعان ما يصير مديراً للمرفأ، وصولاً إلى «الشبّيحة» و«مفرزة الحراسة». كتابة هي رصدٌ لمرحلة تاريخية مفصلية انتصرت فيها السلطة الأمنية على السلطة الحزبية.
مع «المترجم الخائن»، بدا حداد أكثر تركيزاً على تشخيص الأمراض الثقافية السورية وسطوة النقاد والكتّاب العجيبة في الوسط الثقافي، وقدرة كلُّ واحد منهم على التنقل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. هذا يساري راديكالي قادم من الريف لا يجد في المدينة إلّا بؤرة بورجوازية عفنة، وذاك يعاند النظام السياسي ثمّ يصبح بين ليلة وضحاها من أعتى المدافعين عنه. كلُّها شخصيات تضيء نماذج ثقافية «مافيوية» لا تركن إلى مبدأ أو همّ ثقافي إلا الشهرة والمال. في «عزف منفرد على البيانو»، يصبح هذا المنحى أشدّ حنكة وتخصيصاً، من خلال تقديم العلمانية ودورها في صراع السلطة مع الحركات الإسلامية الأصولية... يقع في شباك هذه المعمعة، مثقف قلق في واقع يتقاذفه، يتحوّل إلى مجرد أداة في يد السلطات الأمنية.
«عزف منفرد على البيانو» رواية تشريحية بكل ما تعنيه الكلمة. المثقف العلماني يتعرض لحادث يجعله على تماس مع «خبير»

العلمانية ودورها في صراع السلطة والأصوليّة

يتولى مكافحة الحركات السلفية... تشرّح الرواية كلّ أفكار فالح، وتعود إلى ماضيه الشخصي والفكري، بوصفه من أعتى المدافعين عن العلمانية. «كانت له صولات وجولات على صفحات الجرائد المحدودة أصلاً، وأصبح معروفاً ضمن دائرة صغيرة من القراء النابهين، ومشبوهاً لدى الإدارات الحساسة لانتقاده سياسات داخلية لا يجوز الإشارة إليها. لم يمنح ولاءه للسلطة، ولم يصطدم معها، فلم يحاولوا شراءه لاعتقادهم بأنه سيحرجهم بآرائه الجريئة، ففضّلوا رشوته بمنصب». تمضي الرواية في أحداثها بعد تعرض الأستاذ للاعتداء، تحكي علاقته بالله، بالنساء، وتخبّطه في بحر من التطلّعات والأفكار.
لعل نقطة الانعطاف الدرامية ستكون على صعيد علاقة الأستاذ فاتح مع رجل الاستخبارات، ثم تعرضه لحملة تشهير وانتقاد بعد محاضرة ألقاها بعنوان «مدرسة بلا دين مدرسة بلا جنس»، تناقلتها الصحف العربية ومواقع الإنترنت وتحوّلت أفكارها إلى مساحة للتراشق والشتائم. هددت هذه المحاضرة حياة كاتبها، وصار الأستاذ فاتح يعيش تحت وطأة كوابيسه ومخاوفه، وتحت حراسة مشددة خفيّة من «الأمن الدولي»، يظهرها السرد كواقعة بين الوهم والحقيقة. في هذه الأثناء، لا يشغل بال فاتح سوى ما يتسرّب عن حوار بين السلطة والحركات الإسلامية، وخصوصاً أنّ هذا الأمر أصبح متعلقاً بحياته. صديق الأستاذ فاتح منذ أيام المدرسة، إسلامي غير معجب بأفكار صديقه، وشخصية ثانوية تظهر وتختفي على طول الرواية. نكتشف في النهاية أنّها الهدف الرئيس للأمن. لعلّ الأستاذ فاتح لا يكتسب أهمية في نظر الخبير سليم إلّا لدى إدراكه بأنّه ينفع في حربه على الإرهاب.
في «عزف منفرد على البيانو» بحر متلاطم من أفكار الأستاذ فاتح لا يفصلها عن «الدونكيشوتية» الكثير، وخصوصاً عندما تصطدم بواقع أمني يكون الواقع الوحيد، الذي يحوِّل حياة فاتح إلى كابوس كافكاوي غامض من شدة وضوحه، عبثي من فرط جدّيته، ولا نجاة إلا بالاستسلام له.