strong>مع صاحب «فن الاستمتاع» في مناسبة زيارته البيروتيّةكان يحلم بأن يكون سائق قطار، فإذا به من أبرز مفكري الجيل الجديد في فرنسا، ومن وجوه «اليسار المعادي لليبراليّة». بنى خطابه على فلسفة المتعة، وأعاد قراءة المعلّمين الكبار، وأسس «جامعة شعبيّة» تدرّس أسس التفكير. التقيناه في بيروت على هامش «معرض الكتاب الفرنكوفوني» حيث وقّع كتابه «اللجوء إلى الغابات»

ديما شريف
لم يكن ميشال أونفري (1959) مؤمناً قطّ. لا يذكر تعلقه بالدين رغم أنّه تعلّم على مقاعد الراهبات، وكان يذهب إلى قداس الأحد مع أهله. «كان الله مثل بابا نويل بالنسبة إليّ» يقول فيلسوف اللذة الذي اشتهر بعد تقديمه نظريته الخاصة بممارسة المتعة وفق مقاربة وجودية.
نما مع أونفري إلحاده الذي كان طبيعياً حتى قبل دراسة الفلسفة، كما يقول. ماذا عن اتهامه بتحويل الإلحاد إلى عصبيّة تيولوجيّة؟ «يريدون فقط شتمي والتهجّم عليّ»، يدافع صاحب «بطون الفلاسفة أو نقد العقل الغذائي» (1989). هذه الاتهامات كثرت بعد إصداره «بحث في علم الإلحاد» (2005) الذي فكك الديانات التوحيدية وخلص إلى أنّ تحرر الإنسان لا يكون إلا بالإلحاد.
أقرب إلى برودون منه إلى ماركس، أعاد قراءة سبينوزا بصفته فيلسوفاً متعويّاً
ابن العامل الزراعي الذي وُلد في بلدة أرجانتان الفرنسية، كان يطمح إلى أن يكون سائق قطار. اكتشف نيتشه وفرويد وماركس في مكتبة البلدة: «كتب غيّرت حياتي منذ أصبحت في الـ14» وكانت مدخله إلى الفلسفة التي لم يشفَ من حبها إلى اليوم. في سنته الدراسية الأخيرة، قدّم طلب توظيف إلى محطة القطارات في البلدة، فصُدم عندما أخبروه أنه ينبغي إنهاء المدرسة أولاً ثم الخدمة العسكرية. كان يعتقد أنّه لن يستطيع دخول الجامعة لكونه فقيراً، وكان يفكر فقط في إيجاد عمل. لكن صديقه في المدرسة، الفقير مثله، أخبره أنّ الفقراء يستطيعون ارتياد الجامعة. وهكذا كان. لم تكن الكتابة الفلسفية طموحه الأول. كان يرغب بالكتابة الأدبية مدفوعاً بموسيقى باخ، وكتب بروست وسيلين وغيرهما ممن لم يعد يقرأ لهم الكثير هذه الأيام. صاحب «سياسة المتمرّد» (1997) يبقى منغمساً اليوم في القراءات الفلسفية تجهيزاً لصفه في «جامعة كان الشعبية» (caen). هذه الجامعة أسّسها مع أصدقائه عام 2002، لتستقبل كل من يرغب بحضور صفوف في الفلسفة والفن والتاريخ مجاناً، ومن دون أي شروط كالشهادة أو حتى القدرة على القراءة والكتابة! «لم أكن أتوقع أن يزيد عدد الطلاب في السنة الأولى التي أنشأنا فيها الجامعة على 60، اليوم وصلنا إلى 600». النجاح الاستثنائي دفع إلى تكرار التجربة في مدن فرنسية أخرى.
صاحب «فن الاستمتاع: من أجل مادية متعويّة» (1991)، لم يبدأ الكتابة إلا أواخر الثمانينيات، لتتوالى الإصدارت بمعدل كتاب في العام على الأقلّ، فاستحقّ لقب أكثر الفلاسفة غزارةً وظهوراً في الإعلام. حالة تجعل بعضهم يشبهه بزميله برنار هنري ـــــ ليفي. لكنّ أونفري يعدّ مقارنته بليفي إهانةً بحقه إذا صدرت عن أناس محدّدين. «ليس عندي شيء لأقوله في قمصان ليفي وشعره، لكني أقرأ ما يكتبه عكس الآخرين الذين لا يعرفون شيئاً عن أعماله». يصمت قليلاً قبل أن يضيف: «هو غريم وليس عدواً». يرى أونفري أنّه مع الاستخدام المفرط لوسائل الإعلام، أصبح الجميع فلاسفةً في فرنسا حتى الصحافيون. هو لا يرى الأمر سيئاً، لكنّه يعترف بأنّ عصر فوكو ودريدا ودولوز انتهى.
هذا الفيلسوف الذي أعاد قراءة سبينوزا بصفته متعويّاً، يقوم خطابه المادي على مصادر ومشاغل متعددة: السياسة، الفن، الجسد، الحواس، الطبيعة و... العلاقات الغرامية. الحب مثلاً يجب أن يكون ملموساً برأيه، وتجسيداً للجنة على الأرض. كذلك ينتقد استمرار تأثير الفكر الأفلاطوني على كيفية رؤيتنا إلى الأمور، طارحاً أسئلة جريئة عن الجنس واللذة (ماذا يمكن أن تقول بائعات الهوى للفلاسفة؟).
ماذا يعني أن يكون الإنسان ماركسياً اليوم؟ يجيب: «أن يؤمن بأنّ ماركس اكتشف حلولاً لمشاكل القرن الـ21، فيما عجز عن فعل شيء تجاه مآزق القرنين التاسع عشر والعشرين». يعدّ أونفري نفسه برودونياً (نسبة إلى برودون) أكثر منه ماركسياً. يؤمن بالثورة، لكنّه غير مقتنع بديكتاتورية البروليتاريا. مع ذلك، لا يجد نفسه فوضوياً بالمعنى المتعارف عليه: ما أسخف «خطاب» بعض الفوضويين الذين حوّلوا باكونين نبيّاً، جازمين بأنّه قال كل شيء... وصولاً إلى الإنترنت وزواج المثليين! من هنا انتماؤه إلى تيّار ما بعد الفوضوية (postanarchisme): «إنّها طريقة جديدة لتكون فوضوياً. تستطيع التصويت والمشاركة في الانتخابات والدفاع عن وجود الدولة التي يمكن أن تكون فوضوية بشكل ما. كذلك يمكنها إعادة توزيع الأموال على المواطنين». إذ يرى أنّ من غير الضروري أن تكون الدولة دائماً استغلالية. لدى أونفري مشكلة مع اليسار الذي يتضعضع في فرنسا. «لدينا اليسار الليبرالي والحزب الاشتراكي وحزب الخضر، وهؤلاء لا أمل منهم لأنّهم يمين اليسار». أما «اليسار المناهض لليبرالية، فيتجزأ إلى أقسام غير متعاونة، ما يلحق الضرر بمصالحه». لكن ماذا عن أوليفيه بوزاسنو الذي صوت له في رئاسيات 2007؟ «يعيش في عالمه المثالي. لا يهمه تغيير وضع العمال أو معاناة الناس».
نسأله عن التكنولوجيا، وتحديداً الإنترنت، هل ستسرق القراء من الكتب، وخصوصاً بعد دخول الكتّاب ـــــ وهو منهم ـــــ إلى مواقع التحادث كـ«فايسبوك»؟ «هي مفيدة في نشر التحرر، لكنّها سيئة في مجال الشائعات. رغم ظهوري على شاشات التلفزة، أعتمد على الكتب كاملاً. من خلالها فقط، يمكنني أن أقول الأشياء كما هي من دون تزييف».