صاحب «طبول الذاكرة» مستعيداً مجزرة رواندازينب مرعي
مظهره الرصين لا يوحي بأنّك أمام مشاغب. يزور بيروت في إطار «معرض الكتاب الفرنكوفوني»، مشاركاً في حوار عن كتابه Kaveena. لكنّه يرفض صفة «الفرنكوفونيّة» جملةً وتفصيلاً. هو يكتب باللّغة الفرنسيّة لكنه ليس «فرنكوفونياً»، مع أنّ الاستعمار ترك بصماته حتّى على اسمه. بوبكر بوريس ديوب (1946). هذا الـ«بوريس» ليس إلّا أحد أبناء سارتر في رواية «دروب الحريّة»، أقحمه الأصدقاء على اسمه، من فرط ما كان يحدّثهم، مراهقاً، عن سارتر وبوريس. لكنّ هذا الالتصاق بالثقافة الفرنسية الذي لحق باسمه، لم يتغلغل إلى الهويّة، بل تُرجم بثورة عليها بلغت حدّ القطيعة، حين أعلن: «لن نكتب بالفرنسية بعد اليوم».
بو بكر بوريس ديوب، كاتب وصحافي سنغالي، تربّى في أحضان المدارس الفرنسيّة إلى درجة أنّه يجد نفسه اليوم عاجزاً عن كتابة بحث بالولوف، لغته الأم. في شبابه، رفض اللّحاق بسنغور وتيّار «الزنوجة». «لم نكن نظن أنّ التمييز كان بسبب لون بشرتنا. كنّا من أتباع الماركسيّة، نعتقد، بسذاجة، أنّنا ضحايا التمييز الطبقي».
من يقرأني في السنغال حين أكتب بالفرنسيّة؟
روايته الأولى La cloison صدرت حين كان في الـ15. كتبها بالفرنسية لأنّه لم يكن لديه يومها «وعي سياسي كافٍ»، كما أنّها كانت اللّغة الوحيدة التي يجيدها. مع الوقت، عندما فهم ما يحدث على أرضه وفي قارّته، كتب بالفرنسيّة أيضاً، لكن هذه المرّة رداً على خطاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي ألقاه في داكار في 26 تموز (يوليو) 2007. رأى ديوب أنّ الخطاب يشبه إلى حد بعيد خطاباً يلقيه مستعمر في إحدى مستعمراته.
على درب الرواية المتأثّرة والمطعّمة بالكثير من الثقافة الشفهيّة الأفريقيّة، شعر ديوب شيئاً فشيئاً بقيود مفروضة على قلمه، من جرّاء الكتابة بلغة هي في النهاية ليست لغته الأم. يقول: «لا أستطيع أن أعبّر عن كلّ ما يدور في خاطري بالفرنسية». منذ باكورته «أزمنة تامانغو» (1981) مروراً بـ«طبول الذاكرة» (1990)، تبلور وعيه السياسي تدريجاً، وأدرك آليات القتل الذي يرتكب بحق لغته الأم على يد الفرنسيّة. «هذا الصراع ما زال في بدايته في أفريقيا. الاستعمار انتهى. عندما كان لا يزال قائماً، كان لدينا عذر لنكتب بالفرنسيّة. أن نوصل وجهة نظرنا إلى المستعمر والمحتلّ. أما اليوم، مع الأزمات الاجتماعيّة والسياسية والإنسانيّة التي يعيشها شعبي، فإلى من أتوجّه بالفرنسيّة؟ ألم يحن الوقت لأن نتوجّه إلى الداخل، وهو مجتمع لا يقرأ أصلاً الفرنسيّة». هكذا فعل ديوب عندما كتب «دومي غولو»، أوّل رواية صدرت له عام 2003 بلغة الولوف. هنا توجّه لأوّل مرّة إلى شعبه وقارئه الأصلي. الرواية لم تصدر إلا هذه السنة بالفرنسيّة، مترجمة تحت عنوان «صغار القردة»، كي تتسنى قراءتها للآخرين.
عندما اتخذ بو بكر ديوب قرار العودة إلى لغته الأم، لم تحظ خطوته تلك بالإعجاب في المركز الباريسي: «هم يعدّون كلّ كاتب باللّغة الفرنسيّة مدافعاً عن لغتهم، ولا يريدون أن يخسروه... لأنّ الفرنكوفونيّة تموت». في شوارع بيروت، قام ديوب باختبار درج عليه في الدول «الفرنكوفونيّة» التي يزورها. «رحت أمثّل أنني أضعت طريق الفندق. وصرتُ أسأل المارة. لكن لم يكن أحد يفهمني أو يجيبني بالفرنسيّة. عندما بدأت أتحدث بالإنكليزيّة، صارت الأمور أسهل بكثير...». هكذا يستنتج مجدداً أن «الفرنكوفونيّة اقتربت من الهاوية». ويواصل: في المغرب العربي والبلاد الأفريقية، لا يتكلّم الفرنسيّة إلّا من عايش الاستعمار. أمّا شباب اليوم، فيميلون أكثر فأكثر إلى الإنكليزيّة.
لا يبدي ديوب حزنه على انحسار الفرنكوفونيّة. في القارة السمراء، ما زال جرح الاستعمار حياً إلى حدّ بعيد. يعود بنا إلى مجزرة رواندا عام 1994. هذه المجزرة التي ذهب ضحيّتها 800000 قتيل، هي في جزء منها «مسؤولية الفرنسيين والبلجيكيين الذين روّجوا أنّ ما حدث كان نتيجة حرب قبليّة. ذهبتُ عام 1998 إلى رواندا واكتشفت أنّه ليس هناك قبائل أصلاً. كتبت عندها ما رأيته في «مورامبي: كتاب العظام» (2000).