عاش متأبّطاً رأسه، على حافة المشنقةأمستردام ــــ ياسين تملالي
منذ 20 سنة، مضى تاركاً آثاراً أدبية لم تفلح محاولات أصدقائه (وما أكثرهم) في أن يحبسوها في زنزانة الخطاب اليساري المباشر، واستعصى على النقد الرسمي تحويلها إلى حلقة في سلسلة «الأدب النضالي». ندرة كتاباته لم تمنع تحوّله إلى أشهر كاتب جزائري، بل إنّ شهرته، وفق الناقدة نجاة خدة، «تناسبت عكسياً مع قلة إنتاجه الأدبي».
دخل كاتب ياسين عالم السياسة من باب السجن إثر اعتقاله في تظاهرات 8 مايو 1945 المطالبة بالاستقلال ودخل عالم الكتابة في السنّ نفسها من باب الشعر الكبير. نشر Soliloques (1946) وكانت انفجاراً شعرياً في سماء أدب جزائري لم يتخلّص ـــــ ما كتب منه بالفرنسية ـــــ من عقدة إثبات الذات للنقد الباريسي وما كتب منه بالعربية من تقليد الأدب المشرقي. تماهى الحبّ فيها مع الثورة حيناً وتصادم معها أحياناً. وكان ذلك إيذاناً بقدَر صاحبها المحتوم: أن تتصادم فيه المتناقضات، فيحارب الشاعر فيه المناضلَ ويؤدي حُبّ الاتصال بالشعب بلغته إلى لجم عشق الفرنسية.
في قصائده الأولى، جاءت فرنسيته صدى للغته الأم، فكان شبيهاً بأسلافه الأمازيغ أبوليوس وترتوليان، ممن أبدعوا بالإغريقية واللاتينية درراً غير إغريقية ولا رومانية. وكان هو أيضاً كما وصفهم بول مونسو «شرقياً هائماً على وجهه في بلاد الغرب». لم يقلد أساطين الشعر الفرنسي. كان شعره وادياً جارفاً من وديان الجزائر. استلهم نفَس الأربعينيات التحرري ليحلم بعاصفة تُحرِّر الجزائريين من الاستعمار وأرواحهم من مواريث قرون من الضيم. وجد لنفسه هويته الفنية ولم يتجاوز بعد الـ 17. وجدها في حريته، لا في الإذعان للنظم الأدبية السائدة ولا في التشبه بعبقري تألق في سنه، هو أرتور رامبو.
ثم صدرت «نجمة» عام 1956 بعد سنتين من اندلاع ما يسمّيه الفرنسيون «حرب الجزائر». جاءت أشبه بالرواية الجديدة. أحداثها ومضات ذاكرة يلملم الراوي شتاتها ليصنع لنفسه هويةً يقاوم بها آلة جهنمية، هي آلة التاريخ التي تركته عارياً من كل هوية. رفض كاتبها لجم شيطان وطنيته باسم الطابع الأدبي أو لجم شيطانه الأدبي باسم «متطلّبات المرحلة». لم ينسَ التاريخ باسم الحاضر البائس الذي سبق اندلاع الثورة ولا الحاضر باسم التاريخ المجيد، فخلق أسطورةً تصل بينهما، أسطورة قائد جزائري قضى الاحتلال التركي على حلمه الوحدوي، كما قضى الاحتلال

كان شبيهاً بأسلافه الأمازيغ الذين أبدعوا بالإغريقية واللاتينية

الفرنسي على الحلم نفسه لدى الأمير عبد القادر. كسر الحدود بين العامّ والخاصّ، فعبّرت روايته عن بروز بطل جماعي في فترة مصيرية من التاريخ الجزائري. بطل اسمه الشعب، لم تقلّم أظافره ولا يشبه شعوب الواقعية الاشتراكية ميكانيكيي البطولة والوجود.
بعد «نجمة» دار كل ما نشره في مدارها المغناطيسي، من «الجثة المطوقة» إلى روايته الثانية «المضلّع المرصّع بالنجوم» (1966) التي أقفلت مرحلة أولى من حياته الأدبية. بدأ يؤرّقه التفكير في الاستلاب اللغوي الفرنكوفوني فانتقل إلى الكتابة بالعربية الدارجة، غير مخفٍ اقتناعه بأن الفصحى ليست أحقّ من الفرنسية بأن توصف بلغة الجزائريين: «توجد عربية أخرى، عربية الشعب المحتقَرة. تخيلوا حساسية فرانسوا فيون ورابليه، تخيلوا الحساسية الشعبية لصعاليك الأدب. هذا ما نمثله نحن». كان كلامه تعبيراً عن هاجس الاقتراب من جمهور لم يعرفه منذ 1946. ابتعد عن جمهوره الفرنكوفوني راداً عليه إيمانه بأنّه أديب كبير: «كنتُ أمثل أحد جوانب استلاب الثقافة الجزائرية».
آمن بوظيفة المسرح التعليمية في بلد حديث العهد بالاستقلال فأصبحت مواضيعه أكثر مباشرة وسياسيةً: «محمد خذ حقيبتك» و«صوت النساء» و«حرب الألفي سنة». حرّض عليه نجاحه الإسلاميين وحلفاءهم في السلطة ممن كانوا يرونه ملحداً بالأساس، شاءت الظروف أن يكون مناضلاً وطنياً فتعسّر اتهامه بالعمالة. لم يحتملوا أن يولد من صلب الحركة الاستقلالية الراديكالية رجل يساند الثورة الفلسطينية مساندته لتحرر النساء وحق الأمازيغ في الحديث بلغتهم. حلت فرقته عام 1979 وانتهى مديراً لأحد مسارح الغرب الجزائري، ممنوعاً من الكلام حتى اختار المنفى مجدداً عام 1988.
مذ اختار المسرح الشعبي، لم يصدر له بالفرنسية سوى عملين: «الأعمال المتفرقة» (1986) و«البورجوازي العاري» (1988)، وهي مسرحية كتبها في مئوية الثورة الفرنسية الثانية، وكانت تذكيراً بالدور السياسي للطبقات الهامشية الذي نادراً ما يشير إليه التاريخ الرسمي. هذا العمل كان عودة رمزية إلى نقطة البداية. فهو ألّف في المنفى وبلغة المنفى. وكانت الجزائر أيضاً تعود إلى نقطة انطلاقها في العصر الحديث، إلى الانتفاضة وسيلةً للتحرر. ففي تشرين الأول (أكتوبر) 1988 اندلعت ثورة الشباب التي فتحت باب الحريات قبل أن يغلق عام 1992 بذريعة «محاربة الظلاميين». أحيت الأحداث في صاحب «نجمة» ذكرى انتفاضته هو عام 1945 فوصفها بأنّها «صفعة التاريخ لكل القوادين». أراد أن يستوحي منها عملاً مسرحياً، كان سيفتح مرحلة ثالثة من مسيرته لولا أن القدر عاجله، فتوفي بعد 60 سنة قضاها «متأبطاً رأسه، على حافة المشنقة» كما كان يصف مناضلي الاستقلال.


«عاش كقاطع طريق،/ وعاد شبحاً./ وها هو يهيم على وجهه من جديد./ كم من باب زنزانة كسر/ وهل قدر له غير الفرار المستمر؟»
كاتب ياسين
(من «الأسلاف يزدادون ضراوة» ـــ 1959)