سعيد ولد خليفة * «لا يمكن المرء أن يخرج من ثورة، ثم يقبل بأن يكمَّم فمه»، هذه الجملة التي تلخّص شخصيته ومزاجه، كان كاتب ياسين يردّدها بمزيج من اللطف والحزم. كانت لصوته نبرة خافتة تنم عن طبع خجول يداريه بإطلاق العنان ـــــ بلا حدود ـــــ لروح التحدي والجدل الناري الذي كان يتقن فنونه. كان له أيضاً حسّ فكاهة جارف يوزعّه عرابينَ عطف ومحبة على المهمّشين والمسحوقين الذين كان يعشق معاشرتهم، ويتخذ منهم مصدر وحيه الأساسي في أعماله الأدبية والمسرحية.
لكن صاحب «محمد خذ حقيبتك» كانت له أيضاً حياة إبداعية أخرى، بعيداً عن خشبات المسارح وصفحات الكتب والمجلات: كان يعشق السينما. فيلمه الأول (والوحيد) «غبار يوليو» (1967) ما زال يصنّف كأول عمل عربي طرق مجال السينما التجريبية.
هذا العمل الشاعري الذي أُخرج سينمائياً انطلاقاً من نصّ لكاتب ياسين عن الأمير عبد القادر الجزائري ـــــ قائد المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي من عام 1832 إلى 1847 ـــــ يحيل إلى مزيج من ذكريات دوستويفسكي في «بيت الموتى» وأجواء «المسخ» الكافكاوية. وقد أنجز رسومه رفيق درب كاتب ياسين التشكيلي الكبير أمحمد إسياخم، بينما ضم الفريق التقني سينمائياً ومناضلاً بارزاً، وهو الهاشمي شريف، مخرج فيلم «الطارفة» الذي كان أول عمل سينمائي حظرته الرقابة في الجزائر، وأصبح في بداية التسعينيات زعيم «حزب التحدي»، سليل «الطليعة الاشتراكية» (الحزب الشيوعي الجزائري).
يقول كاتب ياسين عن «غبار يوليو»: «لم يكلفنا سوى 300 دينار جزائري وقنينة ريكار! أنجز إسياخم الرسوم على لوحات زجاجية، وكتبتُ النص، ثم جئنا بممثلين لأداء النص وقراءة التعليق. وصنعنا من كل ذلك فيلماً نال جائزتين سينمائيتين في بلغراد والإسكندرية. لكن الصحف الجزائرية تجاهلت الأمر، ولم تخصّص لنا ولو سطراً واحداً...».
كان مزمعاً ألا يكون ذلك الفيلم تجربة كاتب ياسين السينمائية الوحيدة. في 1975، كان على أهبة خوض تجربة ثانية، برفقة المنتج والمخرج الأميركي المنشق، جوزف لوزي (صاحب «السعفة الذهبية» في «كان» عام 1971، عن رائعته Go-Between). كانت رياح المكارثية قد أرغمت لوزي الذي كان عضواً نشطاً في الحزب الشيوعي الأميركي، على مغادرة هوليوود، للاستقرار في منفاه اللندني. وقد قصد صاحب «اغتيال تروتسكي» كاتب ياسين، طالباً منه كتابة سيناريو عن سيرة عبد العزيز بن سعود. ويُقال إنّ يوسف شاهين كان سيشترك في إخراج الفيلم. بالفعل، شرع صاحب «نجمة» في التأليف، وكتب المئة صفحة الأولى من السيناريو. لكن الخلافات سرعان ما دبّت بينه وبين شريكيه في المشروع، لأنّه رفض أن يلطّف النبرة الساخرة التي سلّطها على سيرة مؤسس الدولة السعودية، ما دفع كاتب ياسين إلى الانسحاب، وصرف النظر عن تلك المغامرة التي كانت واعدة على أكثر صعيد. كذلك كان صاحب «الرجل ذو النعل المطاطي»، على الدوام، وفياً لأفكاره، ومتصلباً في مواقفه، لا يقبل المساومة ولا يعرف أنصاف الحلول.

(*) مخرج وناقد سينمائي جزائري.